الصناعة، حدادا، نقاشا، نجارا، فأطلقه المغيرة في المدينة يصنع لأهلها على أن يدفع للمغيرة كل شهر مائة درهم، وقبل الحادث بأيام دخل أبو لؤلؤة بيت عمر، ليصلح له ضبة، فشكا إليه شدة الخراج، وطلب منه أن يأمر المغيرة بأن يضع عنه شيئا من خراجه، فقال له عمر -وفي نيته أن يلقى المغيرة، فيكلمه، فيخفف عنه- اتق الله وأحسن إليه، إنك لتكسب كسبا كثيرا، ما خراجك بكثير في جنب ما تعمل، فاصبر، فانصرف العبد ساخطا على عمر، وقال لأصحابه: وسع الناس عدله غيري، وأضمر في نفسه قتله، فاشتمل على خنجر مسموم ذي رأسين، وكمن في الفجر في زاوية من زوايا المسجد في الغلس، فلما وقف عمر للصلاة دنا منه، فطعنه في كتفه، وفي خاصرته، وفي بطنه أسفل سرته، فسقط عمر ممسكا بثقب بطنه، وحاول الصحابة الإمساك بأبي لؤلؤة، لكنه طار فيهم بخنجره، لا يمر على أحد يمينا ولا شمالا إلا طعنه، حتى طعن ثلاثة عشر رجلا، مات منهم سبعة، فلما رأى ذلك رجل من المسلمين طرح عليه برنسا، فلما ظن أنه مأخوذ نحر نفسه، وأخذ عمر يد عبد الرحمن بن عوف، فقدمه يصلي بالناس، وكان أكثر من في المسجد لا يعلم شيئا، إلا الصف الأول، فصلى بهم عبد الرحمن صلاة خفيفة، بأقصر سورتين في القرآن {إنا أعطيناك الكوثر} و {إذا جاء نصر الله والفتح} فلما انصرفوا من الصلاة قال: يا ابن عباس، انظر من قتلني؟ قال: الصانع أبو لؤلؤة، غلام المغيرة.
قال: الحمد لله الذي لم يجعل ميتتي بيد رجل يدعي الإسلام، الحمد لله الذي لم يجعل قاتلي يحاجني عند الله بسجدة سجدها له، لا تعجلوا على الذي قتلني. فقيل له: إنه قتل نفسه، فاسترجع عمر، وظن عمر أن عليه ذنبا إلى الناس لا يعلمه، وأن جماعة وراء هذا الجاني، فقال: يا ابن عباس، اخرج فناد في الناس، هل منكم من أعان هذا؟ فخرج، لا يمر بملأ من الناس يسألهم إلا وهم يبكون، كأنما فقدوا أبكار أولادهم، يقولون: معاذ الله، ما علمنا ولا اطلعنا، ثم غلب عمر النزف، حتى غشي عليه، فاحتمله ابنه في رهط حتى أدخله بيته، فلم يزل في غشيته حتى أسفر الصبح، فنظر في وجوه القوم، فقال: أصلى الناس؟ قالوا: نعم، قال: لا إسلام لمن ترك الصلاة، ثم توضأ وصلى الصبح، وتساند إلى ابنه، وجرحه يثغب دما، وقال: إني لأضع إصبعي الوسطى فما تسد الجرح، أرسلوا إلى طبيب ينظر إلى جرحي، فأرسلوا إلى طبيب من العرب، فسقاه ماء تمر وزبيب، لينظر هل سيخرج الشراب من الجرح فتكون الطعنة قد وصلت المعدة؟ فخرج النبيذ من الجرح، لم يتبين الطبيب أنه صديد أو النبيذ، فسقاه لبنا، فخرج اللبن من الطعنة أبيض، فعرف أنه الموت، فقال: أوص يا أمير المؤمنين، فإني لا أظنك إلا ميتا من يومك أو من غد. فقال: الحمد لله.
وتوافد الناس يبكون ويثنون، ويقولون: هنيئا لك الشهادة، هنيئا لك الجنة، كنت كذا وكذا وكذا، فقال: والله إن المغرور من تغرونه، إني لأرجو أن ألقى الله كفافا من الخلافة، لا لي ولا علي، يا عبد الله بن عمر انظر ما علي من الدين، فحسبوه، فوجدوه ستة وثمانين ألفا، فقال: يا عبد الله، أقسمت عليك بحق الله وحق عمر، إذا أنا مت فدفنتني أن لا تغسل رأسك حتى تبيع من أملاك آل عمر بثمانين ألفا، فتضعها في بيت مال المسلمين، وكان عمر قد استدان هذا المال فأنفقه في نوائب لبعض المسلمين. ثم قال: يا عبد الله بن عمر، انطلق إلى عائشة أم المؤمنين، فقل: يقرأ عليك عمر السلام -ولا تقل أمير المؤمنين، فإني لست اليوم للمؤمنين أميرا- وقل: يستأذن عمر بن الخطاب أن