وكانت القدوة العملية والأسوة الحسنة في فعل الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه.

ففي شهر رجب سنة تسع من الهجرة وقبيل حجة الوداع بلغ المسلمين أن اليوم جمعوا جموعا لقتالهم فندب النبي صلى الله عليه وسلم الناس لملاقاتهم وكان المسلمون في ضيق من العيش فاستعدوا بقليل الزاد الذي يملكون وجهز عثمان جزءا كبيرا من جيش العسرة لكنهم مع ذلك خرجوا في قلة من الظهر يتعاقب الأربعة منهم بعيرا والوقت صيف والحر شديد قطعوا مئات الأميال في اتجاه دمشق حتى وصلوا إلى موضع يسمى "تبوك" وقد بلغ بهم الجهد واشتد بهم العطش ولم يسعفهم ماء عين تبوك الناضبة فكانوا ينحرون البعير فيشربون ما في كرشه من الماء ونفذ طعام أكثرهم وأملقوا وأصابتهم مجاعة كبرى ولجأ بعضهم إلى النوى يمصه ويشرب عليه قليلا من الماء وذهب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستأذنونه في ذبح ما تبقى لديهم من إبلهم التي يركبونها ولم ير رسول الله صلى الله عليه وسلم منقذا من هذه الضائقة إلا أن يأذن لهم ولعل الله يحدث بعد ذلك أمرا.

ورأى عمر الناس يعقلون إبلهم لنحرها فقال لهم: ما شأنكم؟ قالوا: استأذنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في نحرها فأذن لنا فقال: وما بقاؤكم بعد إبلكم؟ أمسكوا حتى ألقى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ودخل عمر فزعا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ما بقاء الناس بعد إبلهم؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم وكأنه يقول: وماذا ينقذ الناس من هذه الضائقة غير ذلك؟ وعمر يؤمن بمعجزات النبي صلى الله عليه وسلم ويطمع في رحمة الله بإنقاذ المسلمين على يد نبيه صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله لو جمعت ما بقي من أزواد القوم فدعوت الله عليه بالبركة لكان في ذلك خير.

وسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم للمرة الثانية إنه لم يكن يغيب عنه ما أشار به عمر بل كان يؤمن بأن الله لن يخيب رجاءه إذا رجاه ولكنه صلى الله عليه وسلم كان يقصد تعويد الأمة على الاعتماد على نواميس الحياة دون خوارق العادات أما وقد طلبت المعجزة -من عمر- فالطريق الموافقة عليها والاستجابة لطالبها.

فقال صلى الله عليه وسلم لعمر: ناد في الناس فليأتوا ببقايا أطعمتهم ثم مد فراش الطعام على الأرض ليلقوا عليه ما جاءوا به. جاء بعضهم بما يملأ الكف من الذرة وجاء بعضهم بما يملأ الكف من الشعير والآخر يلقي ما يملأ الكف من القمح والآخر يلقي ما يملأ الكف من التمر والآخر يلقي كسرة خبز حتى ألقى بعضهم بعض النوى الذي كان يمصه ويشرب عليه الماء فاجتمع على الفراش قدر العنز الصغير فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا وبرك عليه ثم قال: خذوا بأيديكم وفي أوعيتكم فجعلوا يأخذون ويأكلون حتى شبعوا وكانوا أربعمائة وألفا وفضلت فضلة فقال خذوا في أوعيتكم فملئوا أوعيتهم ولم يتركوا في العسكر وعاء إلا ملئوه.

فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه سرورا بإكرام ربه له ولأمته ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله لا يموت عبد وهو يشهد هاتين الشهادتين لا يشك فيهما إلا دخل الجنة.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015