قال القاضي عياض: أجمع العلماء على أن جناية البهائم بالنهار لا ضمان فيها، إذا لم يكن معها أحد، فإن كان معها أحد راكب أو سائق أو قائد فجمهور العلماء على ضمان ما أتلفته، وقال داود وأهل الظاهر: لا ضمان بكل حال، إلا أن يحملها الذي هو معها على ذلك، أو يقصده، كان يلوي عنانها نحو شيء فتتلفه، أو يطعنها عند شيء فتفزع وتتلف، وجمهور العلماء على أن الضارية من الدواب - أي المؤذية العنيفة - كغيرها على ما ذكرناه، وقال مالك وأصحابه: يضمن مالكها ما أتلفت، وكذا قال أصحاب الشافعي: يضمن إذا كانت معروفة بالإفساد، لأن عليه ربطها والحالة هذه.
وأما إذا أتلفت ليلا فقال مالك: يضمن صاحبها ما أتلفته، وقال الشافعي وأصحابه: يضمن إن فرط في حفظها، وإلا فلا، وقال أبو حنيفة: لا ضمان فيما أتلفته البهائم، لا في ليل ولا في نهار، وجمهورهم على أنه لا ضمان فيما رعته نهارًا، وقال الليث وسحنون: يضمن. اهـ
واستدل الحنفية والظاهرية بالحديث على أنه لا يفرق في إتلاف البهيمة للزروع وغيرها في الليل والنهار، فحملوه على عمومه، مع أنهم لا يقولون بالعموم، فالظاهرية استثنوا ما إذا حملها راكبها أو سائقها على ذلك، كما سبق، والحنفية فرقوا فيما أصابت الدابة بيدها، أو رجلها، فقالوا: لا يضمن الراكب ما أصابت برجلها وذنبها، ولو كانت الإصابة بسببه، ويضمن ما أصابت بيدها أو فمها، واحتج لهم الطحاوي بأنه لا يمكن للراكب أن يتحفظ من الرجل والذنب، لأنه لا سلطان له عليهما، بخلاف اليد والفم، فإنه يمكنه منعها منهما باللجام ونحوه، بل بعض الحنفية فرقوا بين الراكب والسائق، فقالوا: يضمن السائق لما أصابت برجلها أو يدها، لأن ضربة الرجل بمرأى عينه، فيمكنه الاحتراز عنها.
واستند الحنفية إلى حديث و"الرجل جبار" أخرجه الدارقطني، وهو ضعيف، وهذه الزيادة وهم. وعلى فرض صحته فالمراد بالرجل الدابة كلها.
وعلى هذا فالحديث ليس على عمومه عند الجميع، وحجة الشافعية في عدم الفرق بين ما أتلفت بيدها أو برجلها وإذا كان معها راكب أو سائق أو لا إن الإتلاف لا فرق فيه بين العمد وغيره، ومن هو مع البهيمة حاكم عليها، فهي كالآلة بيده، ففعلها منسوب إليه، سواء حملها عليه أم لا، سواء علم به أم لا، ولهذه الحجة لا يفرقن بين ما أتلفته ليلا أو نهارًا، إذا كان معها سائق أو راكب، أما إذا لم يكن معها أحد، فهم يفرقون بين ما أتلفت نهارًا، فهو جبار، وأما أتلفت ليلا، ففيه الضمان، لأن على مالكها حفظها ليلا، فإذا أتلفت ليلا فمن تقصيره في حفظها، ويستدلون على ذلك بما أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه، من أن البراء بن عازب كانت له ناقة ضاربة، فدخلت حائطًا، فأفسدت فيه، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن حفظ الحوائط بالنهار على أهلها، وأن حفظ الماشية بالليل على أهلها، وأن على أهل المواشي ما أصابت ماشيتهم بالليل".
والشافعية في ذلك يحكمون العرف، إذ قالوا: إذا جرت عادة القوم إرسال المواشي ليلا، وحبسها نهارًا، انعكس الحكم على الأصح، متبعين في ذلك المعنى وحكمة التشريع، قالوا: ونظيره القسم بين الزوجات، لو كان الزوج يتكسب ليلا، ويأتي إلى أهله نهارًا، انعكس الحكم في حقه، مع أن عماد