شقائه، فكانت عقوبة الشرع قطع هذه اليد اليمنى، لقطع الغاية ومنعها من الوقوع، فإن سرق ثانيًا قطعت رجله اليسرى، فإن سرق ثالثًا قطعت يده اليسرى، فإن سرق رابعًا قطعت رجله اليمنى.
تلك حدود الله، ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه، ومن يعرض نفسه لهذه العقوبات فهو الجاني على نفسه. من سرق ربع جنيه ذهبي قطعت يده؟ ما أغلى هذه التضحية، وما أبخس ما حصله في مقابلها؟ يد ديتها خمسمائة دينار، تقطع إن سرقت ربع دينار؟ نعم. لكن ليس الربع دينار هو المقابل لليد، وإنما مقابل اليد تأمين الناس على أموالهم، والأمن أغلى ما في الوجود.
ولا شفاعة في الحدود، ولا رحمة في تنفيذها، فالله تعالى يقول {الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر} [النور: 2].
نعم لا شفاعة في الحدود ولا محاباة، الشريف أمامها كالوضيع، ولا فداء لها، فالغني أمامها كالفقير.
تحكي الأحاديث قصة المرأة الشريفة القرشية، ذات الحسب والنسب، سرقت، فتعرضت لحد الله، وانزعج أهلها، وحسبوا حسابًا للتشهير بهم، ولافتضاحهم، فعرضوا الفداء المضاعف، لعل وعسى، لكنهم يعلمون حق العلم أنه لا يقبل الفداء، فظنوا أن الشفاعة قد تجدي، وهم يستبعدون جدواها، لكن الغريق يتشبث كثيرًا بما لا ينجيه، فمن صاحب الحظوة والدلال عند رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ومن الجريء الذي تسمح له مودته أن يتقدم بهذا الطلب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ إنه ليس إلا أسامة بن زيد، الحبيب ابن الحبيب، فوسطوه، فذهب فشفع، فغضب صلى الله عليه وسلم أشد الغضب، وتلون وجهه، واهتزت أعصابه، وزجر أسامة بغضب قائلاً: أتشفع في حد من حدود الله يا أسامة؟ ما كان يصح منك هذا. يا بلال خذ المرأة فاقطع يدها، ثم خطب في الناس. حمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس إنما أهلك الله من قبلكم لأنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد. ولن تقع أمة الإسلام فيما وقع فيه الأولون. والذي نفسي بيده، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها. وبهذا استقر الأمن، وعم ربوع الإسلام، بتطبيق وتنفيذ حدود الله.
-[المباحث العربية]-
(كتاب الحدود) جمع حد، وأصله ما يحجز بين شيئين، فيمنع اختلاطهما، وحد الدار ما يميزها، وحد الشيء وصفه المحيط به المميز له عن غيره، وسميت عقوبة السارق والزاني حدًا لكونها تمنعه المعاودة، أو لكونها مقدرة من الشارع.
قال الراغب: وتطلق الحدود ويراد بها نفس المعاصي، كقوله تعالى {تلك حدود الله فلا تقربوها} [البقرة: 187]. اهـ.
والحدود الشرعية كثيرة، حصرها بعض العلماء، أو حصر ما قيل بوجوب الحد به في سبعة عشر شيئًا: فمن المتفق عليه حد الردة، والحرابة ما لم يتب قبل القدرة، والزنا والقذف به، وشرب الخمر سواء أسكر أم لا، والسرقة.