(منها أربعة حرم، ثلاثة متواليات، ذو القعدة وذو الحجة، والمحرم ورجب شهر مضر، الذي بين جمادى وشعبان) كان العرب قبل الإسلام يؤرخون بالحوادث الكبيرة، فيقال: عام الفيل، وعام موت هشام بن المغيرة، ونحو ذلك ولما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم اتخذ كثير من المسلمين هجرته مبدأ لتاريخهم، وكانت في ربيع الأول وتناسوا ما قبله، وسموا السنوات بأسماء الحوادث الكبرى، كعام الحديبية، وعام الفتح، وعام العسرة، وظل الأمر على هذا المنوال إلى خلافة عمر رضي الله عنه حيث روي أنه - رضي الله عنه - رفع إليه صك مؤرخ بشعبان، فقال: أي شعبان هو؟ وجمع أهل الرأي، وطلب منهم أن يضعوا للناس تاريخًا، يتعاملون عليه، ويضبط أوقاتهم، حيث اتسعت بلادهم، وكثرت أموالهم ومعاملاتهم، فذكروا له تاريخ اليهود، فما ارتضاه، وذكروا له تاريخ الفرس، فما ارتضاه، فاستحسنوا تاريخ الهجرة، وجعلوا أول شهورها المحرم، فأصبحت الأشهر الحرم الثلاثة المتوالية (القعدة والحجة والمحرم) من سنتين، وكانت قبل من سنة واحدة.
وإنما أضيف "رجب" إلى مضر، لأنهم كانوا متمسكين بحرمته وتعظيمه، بخلاف غيرهم الذين نقلوه إلى شعبان ونقلوا شعبان مكانه، فسموا شعبان رجبًا، وسموا رجبًا بشعبان، فوصف بكونه بين جمادى وشعبان في الحديث تأكيدًا لمكانه بين الشهور، و"ذو القعدة" بفتح القاف، و"ذو الحجة" بكسر الحاء في اللغة المشهورة، ويجوز في لغة قليلة كسر القاف وفتح الحاء.
(أي شهر هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم) إلخ. قال النووي: هذا السؤال والسكوت والتفسير، أراد به التفخيم والتقرير والتنبيه على عظم مرتبة هذا الشهر والبلد واليوم، ليبنى على هذا التعظيم والتفخيم تعظيم شأن المشبه، وهو الدماء والأموال والأعراض، وقولهم: "الله ورسوله أعلم" فوضوا علم الشهر والبلد واليوم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، مع أنهم يعلمونها حق العلم، لأنهم فهموا أنه صلى الله عليه وسلم لا يخفى عليه أنهم يعرفون الجواب، ففهموا أنه ليس المراد الإخبار بالأسماء، وأن المراد من السؤال شيء آخر، ففوضوا العلم به.
(أليس البلدة؟ ) "ال" فيها للكمال، أي البلدة الجامعة للخير، المستحقة لجمع فضائل هذا الاسم.
(فلا ترجعن بعدي كفارًا - أو ضلالاً - يضرب بعضكم رقاب بعض) "ترجعن" بضم العين، ونون التوكيد، وفي ملحق الرواية "فلا ترجعوا" ومعنى "بعدي" بعد فراقي من موقفي هذا، أي بعد الآن، أو من ورائي وخلفي، أي لا تخلفوني في أنفسكم بغير الذي أمرتكم به، أو بعد مماتي، ويكون النبي صلى الله عليه وسلم، قد تحقق أن هذا لا يكون في حياته، فنهاهم عنه بعد مماته، وفي لفظ للبخاري "لا ترتدوا".
و"يضرب" روي بالجزم، وروي بالرفع، وضرب الرقاب كناية عن القتل، فالمعنى لا يقاتل فيقتل بعضكم بعضًا، وقال الخطابي: المراد بالكفار المتكفرون بالسلاح، يقال: تكفر الرجل بسلاحه إذا لبسه، وقيل: معناه لا يكفر بعضكم بعضًا، فتستحلوا قتال بعض.