ثم قال: وقد توارد أكثر المحدثين على إيراد هذا الحديث في كتاب البيوع، لأن الشبهة في المعاملات تقع فيها كثيرًا، وله تعلق أيضًا بكتاب الإيمان، وبالنكاح، وبالصيد والذبائح، والأطعمة والأشربة، وغير ذلك مما لا يخفى.
ثم قال: وحاصل ما فسر به العلماء الشبهات أربعة أشياء:
أحدها: تعارض الأدلة. أقول: دليل يجذبها نحو الحرام، ودليل يجذبها نحو الحلال، يجتهد في فهمها المجتهدون، فيلحقها بعضهم بالحلال إلحاقًا غير واضح، ويلحقها بعضهم بالحرام إلحاقًا غير واضح، وبعضهم يتوقف عجزًا عن إلحاقها بأحد الأمرين، والاستبراء لمن ألحقها بالحلال إلحاقًا غير واضح وغير مسلم من عامة العلماء، أن لا يقر بها بنفسه، وأن لا يعلن للناس حلها، فيقع فيها العامة على أنها حلال، والعامة في هذه الحالة لا يبرءون من المسئولية، إذا أصموا آذانهم عن المعارضين، ولم يتقوا الشبهات، قال الحافظ ابن حجر: وما كان هذا سبيله ينبغي اجتنابه لأنه إن كان في نفسه وواقع الأمر حرامًا فقد برئ من تبعته، وإن كان حلالاً فقد أجر على تركه بهذا القصد.
ثانيها: اختلاف العلماء. أقول: أي الأمور التي اختلف العلماء في حكمها أحلال هي؟ أم حرام؟ اختلافًا غير مدعم، وغير مطمئن للنفس، مثير للريب والشك.
قال الحافظ ابن حجر: وهذا التفسير منتزع من التفسير الأول.
ثالثها: أن المراد بها مسمى المكروه، لأنه يجتذبه جانبًا الفعل والترك.
رابعها: أن المراد بها المباح، ولا يمكن لقائل هذا أن يحمله على متساوي الطرفين من كل وجه، بل يمكن حمله على ما يكون من قسم خلاف الأولى، بأن يكون متساوي الطرفين باعتبار ذاته، راجح الفعل أو الترك باعتبار أمر خارج، قال بعضهم: المكروه عقبة بين العبد والحرام، فمن استكثر من المكروه تطرق إلى الحرام والمباح عقبة بينه وبين المكروه، فمن استكثر منه تطرق إلى المكروه. قال الحافظ: وهو منزع حسن، ويؤيده رواية ابن حبان "اجعلوا بينكم وبين الحرام سترة من الحلال، من فعل ذلك استبرأ لعرضه ودينه، ومن أرتع فيه كان كالمرتع إلى جنب الحمى، يوشك أن يقع فيه" والمعنى أن بعض الحلال حيث يخشى أن يؤول فعله مطلقاً إلى مكروه أو محرم ينبغي اجتنابه، كالإكثار مثلاً من الطيبات، فإنه يحوج إلى كثرة الاكتساب، الموقع في أخذه ما لا يستحق، أو يفضي إلى بطر النفس، وأقل ما فيه الاشتغال عن العبودية، وهذا معلوم بالعادة، مشاهد بالعيان.
ثم قال: والذي يظهر لي رجحان الوجه الأول، ولا يبعد أن يكون كل من الأوجه مرادًا، ويختلف ذلك باختلاف الناس، فالعالم الفطن لا يخفى عليه تمييز الحكم، فلا يقع له ذلك إلا في الاستكثار من المباح، أو المكروه، كما تقرر قبل، ودونه تقع له الشبهة في جميع ما ذكر بحسب اختلاف الأحوال. اهـ.
والتحقيق أن المكروه وخلاف الأولى اللذين أشار إليهما الحافظ ابن حجر لا يطلق عليهما شبهات مادام الحكم الشرعي بينًا واضحًا، وإن كان البعد عنهما يباعد بين المسلم وبين الحرام والكثرة منهما تقرب المسلم من الحرام، فهذا التوجيه إن استقام مع الجزء الثاني من الحديث لا