فينا ما إن تمسكنا به لن نضل بعده أبدًا، كتاب الله وسنته، نعم هناك بعض الأمور القليلة يخفى حكمها على العامة، ويترددون في حلها وحرمتها، بل قد يخفى حكمها على غير الراسخين في العلم، فيبدو خلاف فيها بين العلماء، منهم من يحلها، ومنهم من يحرمها، وواجب الكل حينئذ اتقاؤها، والبعد عنها، كأنها محرمة باتفاق وبظهور، دون إخفاء، فإن كانت في حقيقة الأمر محرمة فقد برئ منها، واجتنبها، وبعد عنها، وإن كانت في حقيقة الأمر حلالاً، وبعد عنها خوفًا من الوقوع في الحرام، أثيب على هذا القصد، ونال أجرًا، فالبعد عنها مكسب على كل حال والوقوع فيها خسارة على كل حال، إن كانت حرامًا ووقع فيها، فالويل له، وإن كانت حلالاً، ووقع فيها تجرأ على الوقوع في أمثالها، وتساهل في الشبهات، ولم يتحرز عما هو قريب من المحرمات، فيقع في الحرام من غير قصد، والعاقل من ترك ما يريبه، ويشك فيه، وعمل بما لا يريبه، ولا يشك فيه، عملاً بقوله صلى الله عليه وسلم "لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس
به، حذرًا مما به البأس" وطهارة القلب، وإبعاده عن الريب والشك أفضل الطاعات.
-[المباحث العربية]-
(الحلال بين والحرام بين) أي الأمور التي حكمها الحل ظاهرة بحكمها، في ذاتها، ووصفها، وأدلة حكمها ظاهرة، وكذا الأمور التي حكمها الحرمة، فأكل الخبز والفواكه والعسل والسمن ولبن مأكول اللحم، ولبس ثياب القطن بألوانها، والجلوس والوقوف والمشي والنوم، كل هذه أمور ظاهرة الحل، وشرب الخمر وأكل الخنزير والميتة والزنا والكذب وأشباه ذلك أمور ظاهرة الحرمة، فلفظ "الحلال" مراد به الذات الموصوفة بهذا الوصف، وقد يراد الحكم نفسه والوصف، فيكون المعنى: الحل في هذه الأمور بين، والحرمة في تلك الأمور بينة، ومعنى ظهورها أنه يعلمها العامة والخاصة من الناس، وإن جهل بعضها الشواذ من البشر.
(وبينهما مشتبهات) بسكون الشين وفتح التاء وكسر الباء، أي أمور مكتسبات الشبه بالحلال، ومكتسبات الشبه بالحرام، وفي رواية للبخاري "وبينهما أمور مشتبهة" بسكون الشين وفتح التاء وكسر الباء وفتحها، وفي رواية للبخاري "وبينهما مشبهات" بفتح الشين، وفتح الباء المشددة، أي شبهها الناس بالحلال تارة، وبالحرام أخرى، لخفاء حكمها، فصار حكمها غير واضح على التعيين، وفي رواية الدارمي "وبينهما متشابهات" أي اكتسبت التشابه بالأمرين المتضادين، والمعاني في الألفاظ المختلفة متقاربة، وسيأتي في فقه الحديث آراء العلماء في المراد بها.
(لا يعلمهن كثير من الناس) أي لا يعلم حكمهن، وجاء واضحًا في رواية الترمذي بلفظ "لا يدري كثير من الناس أمن الحلال هي؟ أم من الحرام؟ " ومفهوم "كثير" أن معرفة حكمها ممكن وواقع، يعلمه القليل من الناس، وهم العلماء المتخصصون المجتهدون، فهي شبهات - على هذا - في حق غيرهم، أما في حقهم فتصبح بينة الحل أو الحرمة، ويمكن أن يراد بالكثير الكل، أو يعطل المفهوم، ويراد بالمتشابهات أمور قليلة تعارضت أدلتها، فلم يظهر للمجتهد ترجيح أحدها، وتكون