ثم إن حملهم الرخصة على الهبة بعيد، لأن الرخصة لا تكون إلا بعد ممنوع، والمنع إنما كان في البيع، لا في الهبة، ثم إن الرخصة قيدت بخمسة أوسق، فما دونها، والهبة لا تتقيد. وحكى الطحاوي عن بعض الحنفية أن معنى الرخصة أن الذي وهبت له العرية لم يملكها، لأن الهبة لا تملك إلا بالقبض، فلما جاز له أن يعطي بدلها تمرًا وهو لم يملك المبدل منه حتى يستحق البدل، كان ذلك مستثنى، وكان رخصة.
وقال الطحاوي: معنى الرخصة فيه أن المرء مأمور بإمضاء ما وعد به، فلما أذن له أن يحبس ما وعد به، ويعطي بدله، ولا يكون في حكم من أخلف وعده، ظهر بذلك معنى الرخصة. اهـ ولا يخفى أن هذه التعسفات لا تغني شيئًا، فإن الذي رخص في العرية هو الذي نهي عن بيع الثمر بالتمر، في لفظ واحد، من رواية جماعة من الصحابة.
قال المحققون: الشافعي أقعد باتباع أحاديث هذا الباب من غيره، فإنها ناطقة باستثناء العرايا من بيع المزابنة، وكل ما ورد من تفسير العرايا في الأحاديث لا يخالفه الشافعي، وإنما يتجه الاعتراض على من تمسك بصورة من الصور الواردة في تفسير العرية، ويمنع غيرها، وأما من عمل بها كلها، ونظمها في ضابط يجمعها فلا اعتراض عليه. وحكي عن الشافعي تقييد العرية الجائزة بالمساكين، وأنكر الغزالي نقل ذلك عن الشافعي، واعتبر الحنابلة هذا القيد مضمومًا إلى القيد الذي اعتبره مالك. فعندهم لا تجوز العرية إلا لحاجة صاحب الحائط إلى البيع، أو لحاجة المشتري إلى الرطب. والله أعلم.
4 - وأما بيع المحاقلة فقد سبق ما قيل في المراد منه في المباحث العربية، وعلى أنه بيع الزرع بالطعام قال ابن بطال: أجمع العلماء على أنه لا يجوز بيع الزرع قبل أن يقطع بالطعام، لأنه بيع مجهول بمعلوم، وأما بيع رطب الزرع بيابسه بعد القطع، مع إمكان المماثلة، فالجمهور لا يجيزون شيئًا من ذلك بجنسه، لا متفاضلاً، ولا متماثلاً.
وأجاز أبو حنيفة بيع الزرع الرطب -كالذرة اللين- بالحب اليابس.
5 - وأما بيع المخابرة وقد قلنا إنها قريبة من المزارعة، وأنها المعاملة على الأرض ببعض ما يخرج منها من الزرع، فسنعرض له في الباب الآتي، إن شاء الله.
6 - وأما بيع المعاومة أو بيع السنين. فقد قال النووي: هو باطل بالإجماع، نقل الإجماع فيه ابن المنذر وغيره، لهذه الأحاديث، ولأنه بيع غرر، وبيع معدوم، وبيع مجهول غير مقدور على تسليمه، وغير مملوك للعاقد.
7 - وأما بيع الثنيا والاستثناء من المجموع، كبعتك هذه الثياب إلا بعضها؛ فقد قال النووي: لا يصح البيع، لأن المستثنى مجهول، فلو قال: بعتك هذه الأشجار إلا هذه الشجرة، أو بعتك هذه الشجرة إلا ربعها، أو بعتك بألف إلا درهمًا، وما أشبه ذلك من الثنيا المعلومة صح البيع باتفاق العلماء، ولو باع الصبرة إلا صاعًا منها فالبيع باطل عند الشافعي وأبي حنيفة، وصحح مالك أن يستثنى منها ما لا يزيد على ثلثها، والله أعلم.