وأهم العلل في هذه البيوع علة تحقق الغرر، ولذلك كان عطف بيع الغرر على هذه الأربعة ليست عطفًا مغايرًا خامسًا، لكنه عطف عام على خاص، وستأتي بيوع أخرى منهي عنها، والأساس الإضرار بالبائع أو بالمشتري أو بهما جميعًا، أو بمصلحة المجتمع.
نعم. لا يكاد يخلو بيع من غرر، لكن هناك القليل المغتفر للحاجة أو الضرورة، وهناك الكثير الذي لا يغتفر ولذلك يقول النووي: وأما النهي عن بيع الغرر فهو أصل عظيم من أصول كتاب البيوع، ويدخل فيه مسائل كثيرة، غير منحصرة، كبيع العبد الآبق - أي الهارب غير معروف المكان - وبيع المعدوم، والمجهول وما لا يقدر على تسليمه، وما لم يتم ملك البائع عليه، وبيع السمك في الماء الكثير، وبيع اللبن في الضرع، وبيع الحمل في بطن الدابة، وبيع الصبرة - أي الكومة - مبهمة، وبيع ثوب من أثواب، وشاة من شياه، ونظائر ذلك.
وكل هذا بيعه باطل، لأنه غرر من غير حاجة، وقد يحتمل بعض الغرر إذا دعت إليه حاجة. كالجهل بأساس الدار عند شرائها، وكما إذا باع الشاة الحامل، والتي في ضرعها لبن، فإن البيع صحيح لأن الأساس تابع للظاهر من الدار، واللبن تابع للشاة، ولأن الحاجة تدعو إليه، ولا يمكن رؤيته وكذلك أجمع المسلمون على جواز أشياء فيها غرر حقير، منها:
أنهم أجمعوا على صحة بيع الجبة - واللحاف والوسادة - المحشوة، وإن لم ير حشوها، وأجمعوا على جواز إجارة الدار والدابة والثوب ونحو ذلك شهرًا، مع أن الشهر قد يكون ثلاثين يومًا وقد يكون تسعة وعشرين يومًا.
وأجمعوا على جواز دخول الحمام بالأجرة، مع اختلاف الناس في كمية استعمالهم الماء، وفي قدر مكثهم، وأجمعوا على جواز الشرب من السقاء بالعوض - وكذلك الوجبة في المطعم المفتوح - مع جهالة قدر المشروب - والمأكول - لاختلاف عادة وقدرة الشاربين والآكلين.
وأجمعوا على بطلان بيع الأجنة في البطون، وبيع الطير في الهواء.
قال العلماء: مدار البطلان بسبب الغرر، والصحة مع وجوده، على ما ذكرناه، وهو أنه إذا دعت حاجة إلى ارتكاب الغرر، ولا يمكن الاحتراز عنه إلا بمشقة، وكان الغرر حقيرًا، جاز البيع، وإلا فلا وما وقع في بعض مسائل بيع الغرر، من اختلاف العلماء، في صحة البيع فيها وفساده مبني على تقديرهم لهذه القاعدة فبيع العين الغائبة بعضهم يرى أن الغرر فيها حقير، فيجعله كلا غرر، فيصحح البيع، وبعضهم يراه غير حقير، فيبطل البيع.
ثم قال: واعلم أن بيع الملامسة وبيع المنابذة، وبيع حبل الحبلة، وبيع الحصاة، وعسب الفعل، وأشباهها من البيوع التي جاء فيها نصوص خاصة، هي داخلة في النهي عن بيع الغرر، ولكن أفردت بالذكر، ونهي عنها لأنها من بياعات الجاهلية المشهورة. اهـ.
وعسب الفحل الذي ذكره النووي هو بفتح العين وسكون السين والفحل الذكر معه الحيوان،