يكلم حفصة بما لا يكلمها من معسول القول، أو تريد أن تكايد حفصة وتريها كيف يحادثها رسول الله صلى الله عليه وسلم محادثة الحبيب للحبيب، فتقول لحفصة وقد جمعهما سفر من الأسفار: اركبي جملي، وادخلي هودجي، واركب جملك وادخل هودجك. فيظنك رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة، ويظنني حفصة، فننظر ما يقول لكل منا؟ ويسير رسول الله صلى الله عليه وسلم طويلاً بجوار حفصة يظنها عائشة، فتغار عائشة، وينزل الركب فينزل صلى الله عليه وسلم بجوار حفصة بعيدًا عن عائشة، وتلوم نفسها، وتعض على كفها، وتضع رجلها في الحشائش لعل ثعبانًا يلدغها، تقول: رب سلط علي عقربًا يلدغني. أنا التي جئت به لنفسي.
ويشتد النقاش بين صفية وبين إحدى نساء النبي صلى الله عليه وسلم فتقول لصفية: يا بنت اليهودية، فتبكي صفية، وتشكو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول لها: قولي: أبي موسى وعمي هارون عليهما السلام.
ويتحزب نساء النبي صلى الله عليه وسلم إلى حزبين، حزب تقوده عائشة، وحزب تقوده زينب بنت جحش، وتذهب زينب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت عائشة تطلب منه أن ينصفها وحزبها من عائشة وحزبها فتهاجمها عائشة، وتكيل لها، وهي تكيل لعائشة حتى أسكتتها عائشة، وخرجت مغضبة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا يتدخل.
وقصة العسل، وتحايل فريق عائشة على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى حرمه على نفسه إرضاء لزوجاته وغضب له ربه، وعاتبه على حرصه الشديد على مرضاة أزواجه على حساب نفسه. {يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك} وحذر الأزواج وهددهن {عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجًا خيرًا منكن} [التحريم: 5] ومع ذلك لم يتوقف التظاهر، ففي يوم من الأيام تجمع الحزبان على هدف واحد، هو المطالبة بزينة الدنيا كنساء كسرى وقيصر، وأحطن به تسكت هذه وتتكلم الأخرى، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساكت واجم، ولولا أبو بكر وعمر دخلا فأمسك كل منهما ابنته لكانت نتيجة هذه المظاهرة غير محمودة.
كم كان صلى اللَّه عليه وسلم صبورًا، إنما للصبر حدود. فلما ضاق صبره كان لا بد من موقف، فحلف أن لا يدخل عليهن شهرًا، واعتزلهن، واعتزل بيوتهن، وعاش في حجرة صغيرة عالية في المسجد شهرًا يصلي بالناس في المسجد، ثم يصعد إليها، لا يكلم أحدًا.
فلما انتهى الشهر، وقد اكتفى صلى اللَّه عليه وسلم بهذه العقوبة أراد ربه أن يأخذ منهن موقفًا أشد، فأنزل عليه آية التخيير {يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحًا جميلاً * وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجرًا عظيمًا} [الأحزاب: 28، 29] يعني من أرادت أن تعيش مع رسول الله صلى الله عليه وسلم دون تمرد ودون إيذاء، وعلى ما هو عليه من ضيق العيش فجزاؤها عند الله، ومن أرادت الدنيا وشهواتها فباب الطلاق والفراق مفتوح. لكنهن جميعًا اخترن الله ورسوله والدار الآخرة. أعد الله لهن أجرًا عظيمًا.
-[المباحث العربية]-
(لما أمر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بتخيير أزواجه) أي لما أمره الله تعالى بقوله {يا أيها