وعفا عنكم فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل ... } [البقرة: 187].
وكان هناك تخفيف آخر منذ البداية على أصحاب الأعذار بقوله: {فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر} واشتمل هذا التخفيف على تخفيف آخر، وهو أن البدل والقضاء على التراخي، لا على الفور، لكنه تراخ إلى أجل، وتوسعة لكن بحدود، وحدها شعبان، فلا يؤجل قضاء صوم رمضان إلى رمضان الآخر، ولذا كانت عائشة وأمهات المؤمنين يقضين ما أفطرنه من أيام رمضان [بسبب الحيض] في شهر شعبان، وأسبغ الله فضله ورحمته بإحسان آخر، فأذن لأقارب من مات وعليه صيام واجب أن يقضوا عنه بعد موته ما كان عليه من صيام في حال حياته، بصيامهم عنه، أو بإطعامهم مسكيناً عن كل يوم وجب عليه ولم يصمه، فيقضي الأقارب بذلك عن ميتهم دين الله تعالى، كما يقضون عن ميتهم دين المخلوقات، فيفكون بذلك أسر ميتهم، ويدفعون عنه ترك الواجب، ويخلصونه -إن شاء الله- من العذاب الأليم.
فلله الحمد على ما أوجب؛ وله الحمد على ما رخص، وله الحمد على عفوه ورحمته.
-[المباحث العربية]-
(وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين) صدر الآيات {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون أياماً معدودات فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين} فالضمير في "يطيقونه" للصوم، وقراءة العامة بضم الياء وكسر الطاء مع المد، من أطاق، فيصير التقدير وعلى الذين يطيقون الصيام فدية، والفدية لا تجب على المطيق إذا صام، فكان المراد وعلى الذين يطيقون الصيام إذا أفطروا فدية، وكان هذا أول الأمر ثم نسخ، كما هو ظاهر من روايتنا الأولى والثانية.
وهناك من زعم على هذه القراءة أن "لا" محذوفة، وأن الأصل: "وعلى الذين لا يطيقونه" فدية، فالآية في العاجز والشيخ والكبير ومن يشق عليه الصوم، ولا نسخ، ومنهم من زعم أن المعنى يصومون بجهدهم وطاقتهم، على أساس أن الطاقة القدرة مع الشدة والمشقة، ومنهم من زعم أن الهمزة للسلب، أي الذين سلبت طاقتهم.
قال الزمخشري: وقرأ ابن عباس "يطوقونه" [بضم الياء وفتح الطاء وتشديد الواو المفتوحة مبني للمجهول] من الطوق أي بمعنى الطاقة أو القلادة، أي يكلفونه، أو يتقلدونه، وعن ابن عباس "يتطوقونه" بمعنى يتكلفونه أو يتقلدونه، و"يطوقونه" بإدغام التاء في الطاء. اهـ والمعنى على قراءة ابن عباس: وعلى الذين يتجشمونه ويتكلفونه بمشقة فدية إذا أفطروا، فالآية في العاجز والشيخ الكبير ومن يشق عليه الصوم، ولا نسخ.
قال الألوسي: والحق أن كلاً من القراءات يمكن حملها على ما يحتمل النسخ وعلى ما لا يحتمله.