لقد خرج من المدينة لفتح مكة في العاشر من رمضان، ومعه من الصحابة عشرة آلاف، خرج صائماً والناس صيام، صاموا يوماً ثم يوماً ثم يوماً، فقيل له: يا رسول الله إن الناس قد شق عليهم الصيام، وإنما ينظرون ما تفعل فيقتدون بك، وهزه هذا الخبر، وهو الذي يقول فيه ربه {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم} [التوبة: 128].
فلما قيل له عن حال الناس ما قيل -وكان الوقت عصراً- ركب ناقته وظهر للقوم، ودعا بإناء فيه شراب، فرفع يده به إلى أعلى، ليراه الناس، فشرب، وناوله من بجواره فشرب، ورأى الصحابة في رسولهم قدوة فأفطر كثير منهم.
لكن البعض ظل صائماً، فلما نزلوا منزلاً في يوم شديد الحر، يتقي صاحب الرداء الشمس بردائه، ويتقي الأعزل الشمس بيده سقط الصائمون على الأرض أول ما نزلوا، يلهثون من العطش لا يستطيعون حراكاً، وتحزم المفطرون، وشمروا عن سواعدهم، وقاموا بضرب الخيام، وسقي الدواب، وجمع الماء، وإعداد المنزل للراحة، ورآهم صلى الله عليه وسلم، فشجعهم وشكرهم وحسن فعلهم، ووعدهم بالأجر الذي لم يبلغه الصائمون، فقال: ذهب المفطرون اليوم بالأجر.
ومع ذلك تمسك البعض بالصيام، ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في منزل آخر رجلاً كالمغشى عليه، يتجمع الناس حوله مشفقين عليه، فقال: ما له؟ ماذا به من وجع؟ قالوا: ليس به وجع ولكنه صائم اشتد عليه الحر، وشق عليه الصوم. فقال صلى الله عليه وسلم: ليس من البر الصيام في السفر.
ورغم كل هذا تمسك البعض بالصيام، وقد بقي على مكة وملاقاة أهلها ثلاثة أيام، فقال صلى الله عليه وسلم للصائمين: إنكم قد دنوتم من عدوكم والفطر أقوى لكم. واستجاب البعض فأفطر، وظل البعض صائماً، فقال لهم صلى الله عليه وسلم: إنكم غداً صباحاً تلقون عدوكم والفطر أقوى لكم؛ أفطروا. وكان هذا الأمر لا يصح مخالفته، لكن قلة من الصائمين ظنوه إشفاقاً لا عزيمة، فصاموا، فأخبر بهم صلى الله عليه وسلم، فقال عنهم: أولئك العصاة، أولئك العصاة؛ عصوا أمري، واستحقوا العقوبة.
وهكذا رغب صلى الله عليه وسلم في الفطر للمسافر، ورهب من صيامه إذا لحقته المشقة من الصيام، أو كان في فطره مصلحة ولو دنيوية لا يقدر عليها صائماً.
وهكذا رأينا الإسلام سمحاً كريماً رحيماً بأهله، لا يحب العنت والمشقة وإن كانت في العبادة، والكيس من أوغل في الدين برفق، فإن المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى.
-[المباحث العربية]-
(خرج عام الفتح في رمضان) المراد من الفتح فتح مكة، ووقع في رواية عن الزهري أنه خرج لعشر مضين من رمضان، قال الحافظ ابن حجر: ووقع في مسلم من حديث أبي سعيد اختلاف