أكثرية التسع والعشرين غير مسلم، فكما حمل "ما" في "ما صمنا" على أنها موصول يمكن لآخرين أن يحملوها على النفي] لكن إرادة الكثرة -لا الأكثرية- من الحديث صحيحة، فالمعنى "الشهر كثيراً- تسع وعشرون" أو "إنما الشهر -كثيراً- تسع وعشرون" وأشار ابن العربي إلى أن في الأسلوب اكتفاء، فقد جاء بالحصر من جهة أحد طرفيه، وحذف الطرف الآخر، وهو مراد، والمعنى: إنما الشهر تسع وعشرون وثلاثون، أي يكون تسعاً وعشرين، وهو أقل عدد أيامه، ويكون ثلاثين وهو أكثر عدد أيامه، فلا تأخذوا أنفسكم بصوم الأكثر احتياطاً، ولا تقتصروا على الأقل تخفيفاً، ولكن اجعلوا عبادتكم مرتبطة ابتداء وانتهاء باستهلال الهلال.
وليس معنى ذلك التناسق بين الشهور، شهر تسع وعشرون وشهر ثلاثون، وإنما المعنى أنه أحياناً يكون كذا وأحياناً يكون كذا، وقد يتوالى شهران وأكثر بحالة واحدة، قال النووي: قالوا: وقد يقع النقص في شهرين وثلاثة وأربعة، ولا يقع في أكثر من أربعة. اهـ.
(فلا تصوموا حتى تروه) أي الهلال، لدلالة السياق عليه.
(إنا أمة أمية، لا نكتب ولا نحسب) "إنا" أي العرب، والأولى ما قاله الطيبي: إنه كناية عن جيل العرب الذين قيل فيهم هذا القول.
وقيل: أراد نفسه صلى الله عليه وسلم. فإن قصد من هذا القول أنه أراد نفسه ومن يشبهه من الأمة في عدم الكتابة والحساب فحسن، وإن قصد منه أنه أراد نفسه فقط معظماً فهو بعيد، لأن الحكم المبني على هذا موجه إلى المكلفين. والأمة بضم الهمزة، وكسرها لغة، وهي في الأصل الجماعة، ومنه قوله تعالى: {وجد عليه أمة من الناس يسقون} [القصص: 23] وكل جنس من الحيوان أمة، قال تعالى: {وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم} [الأنعام: 38] وتطلق على الطريقة والدين والنحلة، فيقال: فلان لا أمة له، أي لا دين له. وتطلق على الرجل المنفرد بدين، ومنه قوله تعالى: {إن إبراهيم كان أمة} [النحل: 120]. قاله ابن الأثير.
و"أمية" منسوبة إلى الأم وتفسيرها "لا نكتب ولا نحسب" لأن الأم والمرأة شأنها ذلك غالباً، أو معناه باقون على ما ولدتنا عليه أمهاتنا. وقال الداودي: "أمة أمية" لم تأخذ عن كتب الأمم قبلها، إنما أخذت عما جاء به الوحي. اهـ وهذا القول بعيد جداً، إذ لو أريد ذلك لقيل: غير أمية، أي غير آخذة عن الأمم، ثم إن إتباعها بقوله: "لا نكتب ولا نحسب" يزيد هذا القول بعداً. وقيل: منسوبون إلى أم القرى، وهو أشد بعداً.
والمراد من الحساب هنا حساب النجوم، وحساب سيرها في أفلاكها، قال تعالى: {هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نوراً وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب} [يونس: 5] فإن قيل: إن أمة العرب حينذاك كان فيهم من يكتب ويحسب؟ أجيب بأن الكتابة كانت فيهم عزيزة نادرة، قال تعالى: {هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم} [الجمعة: 2] ولم يكونوا يعرفون من ذلك الحساب إلا النزر اليسير المبني على الظن والتخمين، لا على العلم واليقين.