والمصالح. وشرع لها حدودا وضوابط لتعليم المسلمين النظام في الحركة والسكون، والانقياد للقائد الذي ارتضوه وقدموه إماما، ومقتضى النظام والدقة والانقياد أن لا يسبقوا قائدهم، فلا يحنوا ظهورهم إلا بعد أن يحني، ولا يرفعوا رءوسهم قبل أن يرفع. بالتزام هذه الحدود والضوابط يتحقق الهدف الأكبر لصلاة الجماعة، ولهذا كثر أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه باتباع الإمام "إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا ... وإذا قال: سمع الله لمن حمده فقولوا: ربنا لك الحمد ... " إلخ.
لكن العجلة طبيعة الإنسان {خلق الإنسان من عجل} [الأنبياء: 37] والشيطان يحركه إلى هذه الطبيعة في الصلاة ليخرجه بسرعة من المناجاة، ويحركه في صلاة الجماعة إلى هذه الطبيعة بصفة خاصة، ليفقده ثوابها، وليوقعه في إثم ما بعده إثم ويعرضه لعقوبة من أشد العقوبات.
لقد كان صلى الله عليه وسلم يراقب من خلفه في صلاة الجماعة، وكان حريصا على التزامهم ومتابعتهم لصلاته، فكان يقوم المعوج، ويصحح الخطأ. صلى رجل خلفه فجعل يركع قبل أن يركع، ويرفع قبل أن يرفع، فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم صلاته، قال: من الفاعل هذا؟ قال: أنا يا رسول الله. قال: إذا ركع الإمام فاركعوا وإذا رفع فارفعوا".
كثرت هذه النصيحة، وكثرت معها المخالفات، فلم يكن بد من التشديد ولم يكن بد من الوعيد، ولقد صلى بأصحابه في يوم من الأيام وأحس بعدم الالتزام، فلما قضى صلاته توجه إليهم، فقال: أيها الناس. إنني إمامكم، وإنما جعل الإمام ليؤتم به، فلا تسبقوني بالركوع ولا بالسجود ولا بالقيام ولا بالانصراف، فتعرضوا أنفسكم لعقاب الله. والله الذي نفسي بيده لو تعلمون ما أعلم من عقوبة المخالف لإمامه لخفتم على أنفسكم، واقشعرت أبدانكم وانصرفتم عن السرور بدنياكم والفرح بما آتاكم، والضحك في لهوكم، إلى الانقباض والعبوس والبكاء، قالوا: وماذا رأيت وعلمت يا رسول الله؟ قال: رأيت الجنة والنار، رأيت الجنة لمن أطاع والتزم، والنار لمن جعل إمامه كلا إمام.
ومع هذا التشديد والوعيد وجد المخالفون، فترقى بالوعيد، وارتفعت الشريعة بالتهديد، فقال صلى الله عليه وسلم: "أما يخشى الذي يرفع رأسه قبل الإمام ويسبق الإمام في حركاته أن يجعل الله رأسه في صورة رأس الحمار، وأن يجعل وجهه في صورة وجه الحمار، وأن يجعل شكله وهيئته في شكل وهيئة الحمار في الدنيا بالمسخ؟ أو في الآخرة للتشهير والتوبيخ؟ ".
وقام علماء الأمة من بعده صلى الله عليه وسلم على حراسة الشريعة واهتموا الاهتمام اللائق بهذه الشعيرة، فهذا البراء بن عازب -وقد رأى المأمومين يسبقون الإمام- يخطب الناس على المنبر، فيقول: أيها الناس. تابعوا الإمام ولا تسبقوه، بل ولا تلاحقوه بسرعة المتعجل، فقد كنا نصلي خلف النبي صلى الله عليه وسلم فإذا رفع رأسه من الركوع لم نر واحدا من المأمومين يحني ظهره للسجود حتى يضع رسول الله صلى الله عليه وسلم جبهته على الأرض ساجدا ثم يخر من وراءه سجدا. أيها الناس، كنا لا نركع إلا بعد أن يركع، ولا نرفع إلا بعد أن يرفع.
وهذا ابن مسعود، يرى رجلا يسبق إمامه، فينهره ويقول له: لا وحدك صليت، ولا بإمامك اقتديت.