التوحيد نوعان: توحيد في المعرفة والإثبات: وهو توحيد الربوبية والأسماء والصفات.
وتوحيد في الطلب والقصد وهو توحيد الإلهية والعبادة.
وفي الفاتحة: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] الله، الإله المألوه، المعبود، والإله له صفات والرب له صفات ومقتضيات، فكونه رب فهو يخلق ويرزق ويفعل ما لا يقدر عليه غيره سبحانه وتعالى، وكونه إله يقتضي ذلك أن على المخلوقين الذين خلقهم سبحانه أن يعبدوه لأنه يستحق أن يعبد، فهو رب وهو إله سبحانه وتعالى؛ ولذلك لما تقول في كلمة التوحيد: أشهد أن لا إله إلا الله، فلا ينفع فيها أن تقول: أشهد أن لا رب إلا الله؛ لأن الربوبية لم يخالف فيها الكفار إلا من عاند وهو يعلم أنه كذاب مثل النمرود وفرعون، فـ النمرود عاند إبراهيم عليه الصلاة والسلام حين قال: {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} [البقرة:258] فقال النمرود: (أنا أحيي وأميت) قال: {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَر َ} [البقرة:258] وظهر عند ذلك كذبه، وفرعون قال: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38] فادعى الألوهية، ثم ارتفع قليلاً وقال لهم: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24] وقال: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الزخرف:51] أفلا ترون كل ما فعلته أنا ربكم الأعلى، ولما قال ذلك إذا بالله يفضحه ويغرقه في البحر، فلما غرق قال: {آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس:90] أي: أنا مثلهم، أنا من هؤلاء المسلمين، وهو مع ذلك ليس على عقيدة صحيحة فهو يقول: {آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس:90] فالذي ادعى الربوبية النمرود وفرعون والله عز وجل شاهد عليهم وكفى بالله شهيداً: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف:87] {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} [الزخرف:9] فشهد الله عليهم أنهم في قلوبهم يقرون بالربوبية، وأن الذي يخلق ويرزق هو الرب الذي في السماء، وجاء في قصة حصين لما كان كافراً وسأله النبي صلى الله عليه وسلم كم تعبد من إله قال: ستة، قال له: أين هؤلاء؟ قال: خمسة في الأرض وواحد في السماء قال: من الذي ترجوه لنفعك وضرك؟ قال: الذي في السماء.
الذي يرجوه للنفع وللضر هو الذي في السماء، وهذه ربوبية، فهم يعبدون من دون الله ما لا آلهة لا تنفع ولا تضر فيعبدون الآلهة من دون الله سبحانه وتعالى، فالغرض أن الله عز وجل هو الرب وكل مخلوق مقر أن الله عز وجل رب وأنه هو الذي يخلق ويرزق سبحانه وتعالى.
إذاً: التوحيد نوعان: توحيد الربوبية وهو توحيد في المعرفة والإثبات، يعني: معرفة أن الله يخلق ويرزق، وأن الله أسماؤه الحسنى كذا وصفاته العلى كذا، فهذا توحيد علمي خبري، يعني: يقتضي أن تعلم الإله الذي تعبده بأسمائه وصفاته سبحانه وتعالى.
وتوحيد طلبي إرادي من الله سبحانه وتعالى وهو توحيد الألوهية، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] أي: أنا خلقتهم آمراً لهم أن يعبدوني؛ ولذلك أخذ الله عليهم الميثاق قبل أن يأتوا إلى هذه الدنيا وهم في ظهور آبائهم من قبل فقال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} [الأعراف:172 - 173] فالله عز وجل أشهد الخلق على أنفسهم بما أودعه في قلوبهم من فطر أن الله سبحانه هو الذي يستحق العبادة وحده لا شريك له.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: التوحيد الذي جاءت به الرسل إنما يتضمن إثبات الإلهية لله وحده بأن يشهد أن لا إله إلا الله، ولا يعبد إلا إياه، ولا يتوكل إلا عليه، ولا يوالي إلا له، ولا يعادي إلا فيه، ولا يعمل إلا لأجله، وذلك يتضمن إثبات ما أثبته لنفسه من الأسماء والصفات.
إذاً ليس المطلوب أن تعرف أن الله يخلق ويرزق فقط فالكل يعرف ذلك، لكن المطلوب منك أن تقول: لا إله إلا الله، يعني: أنا لن أعبد إلا الله، ولن أتوجه بعبادة إلا إليه وحده لا شريك له، فلذلك إذا قال الكافر: لا رب إلا الله.
لم يدخل في الإسلام، بل لابد وأن يقول: لا إله إلا الله.
يعني: لن أعبد إلا الإله الواحد سبحانه وتعالى.
قال: وليس المراد بالتوحيد مجرد توحيد الربوبية وهو: اعتقاد أن الله وحده خلق العالم كما يظن من يظن من أهل الكلام والتصوف ويظن هؤلاء أنهم إذا أثبتوا ذلك بالدليل فقد أثبتوا غاية التوحيد، وإنما التوحيد أن تتوجه إلى الله بالعبادة وهو مقتضى لا إله إلا الله، وقد قال الله سبحانه وتعالى عن الناس: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف:106]، وقال: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56].
يقول شيخ الإسلام في تعريف العبادة: هي طاعة الله بامتثال ما أمر الله به على ألسنة رسله عليهم الصلاة والسلام، يعني: في كل شيء أمر الله عز وجل به تطيع فتفعل المأمور، وفي كل شيء نهى الله عز وجل عنه تطيع فلا تفعل المنهي.
وهناك تعريف آخر يذكره أيضاً شيخ الإسلام رحمه الله فيقول: العبادة هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة.
كل شيء يحبه من أقوال فهو عبادة، ومن أعمال فهو عبادة سواء نطقت بهذه الأقوال أو أسررت بها وسواء عملت الأعمال بجوارحك أو بقلبك، ولذلك يقول ابن القيم: مدارها على خمس عشرة قاعدة، من كملها كمل مراتب العبودية، يقصد أن العبادة تنقسم إلى أقوال باللسان، وأفعال بالجوارح، وأفعال بالقلب، وكل واحدة من هذه الأقوال والأفعال يدخل تحتها الأحكام التكليفية الخمسة: الواجب، والمستحب والمباح، والمكروه، والمحرم.
يقول القرطبي: أصل العبادة التذلل والخضوع، قال: وسميت وظائف الشرع على المكلفين عبادات لأنهم يلتزمونها ويفعلونها خاضعين متذللين لله سبحانه، وتأمل كلمة العبادة فهي من عبد، ومنها: هذا طريق معبد، يعني: طريق مسهل، فالعبادة كأنك تعبد نفسك لله سبحانه، وتذللها وتسهلها، وإذا أمرك أطعته لا يوجد معارضة ولا يوجد منافسة ولا يوجد محادة، وينهاك عن شيء فتنتهي، فالعبادة كأنك جعلت نفسك سهلة ذليلة مطيعة للرب سبحانه وتعالى.
قال الحافظ ابن كثير: عبادة الله هي طاعته بفعل المأمور وترك المحذور.
فهذه تعريفات للعبادة وكلها ترجع إلى معنى واحد وهي: طاعة الله سبحانه على وجه الإذعان له في كل ما يحب ويرضاه سبحانه وتعالى، قال: وهي حقيقة دين الإسلام.
يقول: ومعنى كلمة الإسلام: الاستسلام لله تعالى المتضمن غاية الانقياد والذل والخضوع، والإسلام هو هذا الدين العظيم الذي ارتضاه الله عز وجل لعباده، قال: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ} [المائدة:3] وقال: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ} [الحج:78] هذه التسمية الجميلة التي لا نرضى عنها بديلاً (أنا مسلم) معناها: أنا مُسَلِّم نفسي لله عز وجل، أنا مستسلم لله، أنا مذعن له، أنا خاضع له، أنا خاشع له، أنا مطيع له؛ فإذا قال: أنا مسلم، ثم عصى ربه، فيكون قد انتقص شيئاً من الذي أمره الله عز وجل به من الطاعة.
الإسلام هو: استسلام يتضمن غاية الخضوع والخشوع والانقياد والذل لرب العالمين سبحانه.
وقول الله عز وجل: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلا لآمرهم أن يعبدوني وأدعوهم إلى عبادتي، ولولا أن الله علمهم لما عرفوا ما هي العبادة، ولكن من رحمة رب العالمين أنه علمهم كيف يعبدونه، وكيف يصلون له، وكم يصلون في اليوم والليلة، وكيف ومتى يصومون، وفي أي شهر يصومون، فعلمهم الله سبحانه ولم يتركهم يعبدونه كيف شاءوا.
قال سبحانه: {أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى} [القيامة:36] أي: هل يظن أن يترك هملاً لا أحد يسأله؟ كما قال الدهريون: {نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} [الجاثية:24] أي: إن هم إلا يخرصون ويكذبون، فإن الله عز وجل خلق الخلق لحكمة، وهي أن يعبدوه، ثم يميتهم ليحاسبهم بعد ذلك فمنهم من يكون من أهل الشقاء ومنهم من يكون من أهل السعادة.
إذاً: خلق الله العباد ليعبدوه ونهاهم عن أن يشركوا به شيئاً وعلى الإنسان أن يتأمل في هذا الحديث الذي رواه الترمذي عن الحارث الأشعري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال يحيى بن زكريا: إن الله أمرني بخمس كلمات أن أعمل بهن وآمركم أن تعملوا بهن: قال أولهن: أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، وإن مثل من أشرك بالله كمثل رجل اشترى عبداً من خالص ماله بذهب أو ورق فقال هذه داري وهذا عملي فاعمل وأد إلي، فكان يعمل ويؤدي إلى غير سيده،