وبعد أن نجا إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، هاجر من هذه البلاد، قال تعالى: {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي} [الصافات:99]، أي: إني مهاجر وتارك هذا المكان الذي يعبدون فيه غير الله سبحانه، فتوجه إلى الشام.
ولما توجه إلى ديار الشام وجدهم يعبدون الكواكب والنجوم من دون الله عز وجل، فنظر متأملاً لهذه العبادة الباطلة، وأخذ يدعوهم إلى ربه سبحانه تبارك وتعالى ويسألهم: ما هذا الذي تعبدون؟ قالوا: نعبد هذه الكواكب وهذه النجوم، وحين جن عليه الليل رأى كوكباً فقال: هذا ربي وربكم، فلما أفل قام وكأنه يتفكر أمامهم، حتى يردهم عما هم فيه من باطل، فقال: {لا أُحِبُّ الآفِلِينَ} [الأنعام:76]، أي، كيف أعبد هذا الذي بعدما طلع وأضاء أخذ يتوارى ويظلم؟ إني لا أحب رباً بهذه الصورة.
والمقام من إبراهيم كان مقام مناظرة، وليس مقام نظر، ومقام المناظرة يتنزل فيه لبيان ضعف حجة الخصم، فأنت حين تناظر الخصم، تقول له: أنا أقول كذا، فيقول لك: وأنا أقول كذا، فتقول: لو فرضنا أن قولك صحيح فإنه ينبني عليه كذا وكذا، وأنت لا تعتقد صحة ما يقول، بل تقوله في مقام المناظرة.
ومنه قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء:22]، ففي الآية مقام التمانع أي: لو كان فيها آلهة غير الله لفسدت السموات والأرض، فلما لم تفسد السموات ولا الأرض، فإنه لا يوجد آلهة غير الله عز وجل، ومنه أيضاً قول الله عز وجل: {إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} [الزخرف:81]، على قول من أقوال المفسرين.
فالمراد أن إبراهيم كان في مقام المناظرة مع قومه، لا مقام النظر من الإنسان الذي لا يعرف فيطلب المعرفة وينظر ويتأمل حتى يعرف بعد ذلك، وحاشا لإبراهيم أن يكون كذلك، بل إبراهيم عرف ربه سبحانه تبارك وتعالى، فناظر على معرفته ولم يكن ناظراً يتفكر ويتأمل وهو لا يعرف، فكان يعرف يقيناً أن الله واحد لا شريك له، وأن الله خالق كل شيء سبحانه.
فلما قال لقومه: {لا أُحِبُّ الآفِلِينَ} [الأنعام:76]، طلع عليهم القمر فقال: هذا ربي هذا أكبر من الأول قال تعالى حاكياً لقوله: {فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ} [الأنعام:77 - 78]، أي: هذه أكبر شيء يرى من النجوم: {فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام:78 - 79]، فإذا به يصل في النهاية معهم إلى أن هذه لا تنفع ولا تضر، بل هي أشياء تبزغ ثم تنصرف بعد ذلك وتأفل، فلا تستحق أن تعبد من دون الله، وظل يناظرهم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام وهم يأبون ذلك، فإذا بإبراهيم عليه الصلاة والسلام، يعتزل هؤلاء في عبادتهم لغير الله، بعد أن دارت بينه وبينهم مناظرات وثبته ربه سبحانه ونصره على هؤلاء كما نصره على الذين من قبلهم بالحجة والبرهان.