ثم ساق ثلاثة أمثلة من أهل الكرامات، قصة مريم بنت عمران، فهي عليها السلام كانت صديقة ولم تكن نبية على الصحيح من أقوال أهل العلم، والله سبحانه وتعالى جعلها وابنها آيتين من آياته سبحانه وتعالى، فأكرمها بأن حملت بغير زوج، فقد حملت بالمسيح عليه الصلاة والسلام وليس لها زوج فليس للمسيح عليه السلام أب بل هو منها وحدها، فجعل الله عز وجل هذه آية لـ مريم قال تعالى: {إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ} [آل عمران:45] فذكر أن المسيح على نبينا وعليه الصلاة والسلام خلق بكلمة (كن) من الله سبحانه وتعالى.
فكان هذا لـ مريم آية من الآيات وهي لم تطلب ذلك، ولم تسأل الله عزل وجل ذلك، ولكن أكرمها فجعلها لها آية وكرامة وابتلاء، وقال تعالى: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا} [آل عمران:37]، فكانت كرامة من الله عز وجل لـ مريم بنت عمران أن الله يرزقها في مكان صلاتها، وينزل عليها رزقاً من السماء إلى المحراب، وهذه كرامة يكرم الله عز وجل بها من يشاء من خلقه.
والمثال الثاني: قصة أسيد بن حضير، وهو صحابي من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كان يحفظ من القرآن وكان يقوم لله سبحانه وتعالى فيصلي بما يحفظ، فقام مرة -كما جاء في صحيح البخاري وغيره- يصلي لله عز وجل ليلة من الليالي في مربضه وهو المكان الذي يربط فيه الحصان، وكان ابنه يحيى قريباً من الحصان، فقرأ من سورة البقرة، فإذا به يجد شيئاً مثل السرج ينزل من السماء، ووجد الحصان ينفر من مكانه، فإذا به يقرأ، وإذا بهذا الشيء ينزل وإذا بالحصان يزداد في النفور، ثم إنه انقطع عن القراءة فارتفع هذا الشيء الذي نزل من السماء.
يقول وهو يحكي القصة: (فخشيت أن يطأ يحيى، فقمت إليها فإذا مثل الظلة فوق رأسي فيها أمثال السرج عرجت في الجو حتى ما أراها، قال: فغدوت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكرت له ذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تلك الملائكة، كانت تستمع لك، ولو قرأت لأصبحت يراها الناس ما تستتر منهم).
فهذه ملائكة نزلت من السماء لحسن تلاوته وإخلاصه وتعبده بالليل، ولو ظل يقرأ حتى الفجر لأصبح الناس ينظرون إلى الملائكة، فهذا أسيد بن حضير أكرمه الله بكرامة، وهو لم يطلب هذه الكرامة، ولم يسأل ربه ذلك، ولكن الله أعطاه ذلك.
يقول الشيخ صنع الله: وأما اعتقادهم أن هذه التصرفات لهم من الكرامات فهو من المغالطة.
أي: من يغالي في المشايخ، ويقول: إنهم يتصرفون في العالم، أو أن الله جعل لهم التصرف في بلدة معينة، أو في جزء من الأرض معين، فيقول الشيخ: هذا من الكذب، فلم يجعل الله سبحانه وتعالى لأحد أن يتصرف في شيء من خلقه سبحانه، بل هو الذي يتصرف في أمور الكون كلها وحده لا شريك له.
ثم ذكر أن الكرامة شيء يكرم الله عز وجل به أولياءه لا قصد لهم فيها، والتصرف فيه قصد، فهو يقصد أنه يتصرف في كذا ويتصرف في كذا ويعمل كذا وهذا يتنافى مع الكرامة، فلم يجعل الله لهم ذلك، فالكرامة أن يكرم الله من يشاء من عباده بشيء لا قصد لهم فيه كما ذكرنا في قصة مريم عليها السلام أن الله أكرمها بأن جعل لها رزقاً في محرابها من عنده سبحانه: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا} [آل عمران:37].
الكرامة الثالثة: وكانت لـ أبي مسلم الخولاني، وأبو مسلم الخولاني رجل من المخضرمين أسلم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم في اليمن ولكنه لم يره، وكان الأسود العنسي قد تنبأ في اليمن واسمه الأسود بن قيس ولقبه ذو الحمار، فبعث الأسود إلى أبي مسلم الخولاني، وقال له: أتشهد أني رسول الله؟ وقد أسلم أبو مسلم رضي عنه، فيقول أبو مسلم: لا أسمع ما تقول، فيقول الأسود العنسي لـ أبي مسلم: أتشهد أن محمداً رسول الله؟ فيقول أبو مسلم: نعم صلوات الله وسلامه عليه، فيكرر عليه الأسود: أتشهد أني رسول الله؟ فيقول: لا أسمع، يعني: كلامك سخيف ولا يستحق الجواب عليه، فإذا به من غيظه يأمر بإيقاد نار ليضع أبا مسلم الخولاني فيها، فأوقدوا له ناراً ووضعوه فيها، فنجاه الله سبحانه وتعالى ولم تحرقه النار، فإذا بهذا الأسود يطرده من اليمن فيتوجه أبو مسلم إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فلما وصل إليه وعرف بقصته رضي الله تبارك وتعالى عنه، قال عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه: الحمد لله الذي لم يمتني حتى أراني في أمة محمد صلى الله عليه وسلم من فعل به كما فعل بإبراهيم صلى الله عليه وسلم.
فهذه كرامة من الله عز وجل لـ أبي مسلم الخولاني، هو لم يطلبها ولكن الله أكرمه بهذا الشيء، فهذه كرامات لأولياء الله سبحانه، ولم نسمع أن هؤلاء قد قالوا: نحن نتصرف في الكون أو ظن أحد منهم أن لهم تصرفات في الكون.