وقول الله تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} [الإنسان:7] فيها المدح للمؤمنين الذين يوفون بالنذر.
والنذر منه ما هو جائز، ومنه ما هو مكروه، ومنه ما هو محرم.
فالنذر الجائز نذر التبرر كأن يقول: لله علي أن أقوم هذه الليلة، أما النذر المكروه فهو نذر المعاوضة ونذر اللجاج، كأن يقول: يا رب! لو شفيت مريضي سأصوم لك ثلاثة أيام، كأنه يتعامل مع الله بهات وخذ، ستعطيني كذا سأعمل لك كذا، فهذه المعاملة لا ينبغي أن تكون مع الله عز وجل، فهو بذلك ينسى نعم الله عز وجل عليه وينظر إلى هذا الأمر فقط، فالنبي صلى الله عليه وسلم كره ذلك وأخبر: (أن النذر لا يأتي بخير إنما يستخرج به من البخيل)، (النذر لا يأتي) يعني: لن تنال ما تريده بنذرك إلا أن يكون الله قدره لك، إذاً: سواء نذرت أو لم تنذر فسيحصل لك طالما أن الله قدره لك، وإذا لم يقدره لك فلن تحصل عليه سواء نذرت أو لم تنذر، (وإنما يستخرج به من البخيل) والإنسان ببخله يتعود على ذلك، وينسى أن الله أعطاه كل النعم العظيمة التي يعيش فيها ويتقلب فيها ليل نهار.
وكره النبي صلى الله عليه وسلم هذا النذر الذي هو نذر المعاوضة، وإنما النذر الجائز المباح نذر التبرر، مثل إنسان يريد أن يلزم نفسه بقيام الليل فيقول: لله علي أن أقوم الليل هذه الليلة، فيقصد إلزام نفسه بهذه العبادة التي كانت مباحة ومستحبة وجائزة وليست واجبة فصارت بنذره واجبة عليه، فإذا وفى بنذره فإنه مأجور على ذلك.
والنذر الممنوع منه نذر الشرك، ونذر المعصية، والنذر فيما لا يطيق ولا يقدر ابن آدم عليه كما جاء في حديثه صلى الله عليه وسلم وفيها تفصيل.
ومن الشرك النذر لغير الله، كأن يقول: سأذبح للبدوي كذا لو حصل كذا، وسأذبح لـ أبي العباس كذا لو حصل كذا، فنذر أن يذبح لغير الله سبحانه وتعالى، ولا يجوز له ذلك فالعبادة لا تكون إلا لله سبحانه وتعالى: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ} [الأنعام:121].
وقال الله سبحانه يمدح المؤمنين: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} [الإنسان:7] يخافون يوم القيامة الذي شره عريض واسع عظيم -نسأل الله العفو والعافية- فيوفون بالنذر.
قال سبحانه: {وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ} [البقرة:270] أي: يعلمه فيجازيكم عليه على إحسانكم بالإحسان، يقول ابن كثير: يخبر تعالى أنه عالم بجميع ما يعمله العاملون من الخيرات ومن النفقات والمنذورات ويتضمن ذلك المجازاة على ذلك.
يقول: وإذا علمت ذلك فهذه النذور الواقعة من عباد القبور تقرباً بها إليهم ليقضوا لهم حوائجهم وليشفعوا لهم كل ذلك شرك في العبادة.
يعني: أن يأتي إلى قبر من القبور ويقول: يا سيدي فلان اعمل لي كذا، أو يكتب ورقة ويعلقها بالقبر، أو يضع رأسه على حديد القبر ويتكلم في السر كأنه يكلم صاحب القبر، والله يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: {فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} [الروم:52].
وإن كان أسمع أهل القليب في يوم بدر وهذا كان خاصاً، لكن في غير ذلك الميت لا يسمع من الأحياء شيئاً إلا ما يبلغه الله عز وجل لهؤلاء الأموات عن طريق أرواح الأموات التي تأتي إليهم.
فإن الأموات في قبورهم تأتي إليهم روح الإنسان المتوفى حديثاً فيسألونه: ما فعل فلان وفلان؟ فيقول: ألم يأتكم؟ فيقولون: ذهب به إلى أمه الهاوية.
فهم أموات لا يدرون شيئاً عما في الدنيا.
فيقول لهم: تزوج فلان من فلانة وترك فلان فلانة وفعل فلان.
فالغرض: أن الإنسان مهما دعا الأموات، ومهما كانوا من الصالحين أو من غيرهم فإنهم لا يسمعون الدعاء إنما الذي يسمع الدعاء ويستجيب هو الله عز وجل.
قال الله عز وجل: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الأنعام:136].
كان أهل الجاهلية إذا زرعوا وحصدوا قالوا: هذا نصيب ربنا سبحانه وتعالى من الزرع، ويفعلون مثلها في الأنعام ويقولون: هذا نصيب الصنم الفلاني والصنم الفلاني، فإذا اختلط هذا مع هذا جعلوه كله للأصنام، فما كان لله جعلوه لأصنامهم وما كان لأصنامهم لا يجعلونه لله عز وجل ويقولون: الله غني عن هذا وكأن الصنم فقير، ويعبدون هذا الفقير الذي يعرفون أنه لا يملك شيئاً، فإذا اختلطت الأنعام التي جعلوها لله بالأنعام التي جعلوها لأصنامهم جعلوها كلها للأصنام وقالوا: الله غني عن ذلك، وإذا كان الله سبحانه غني فلماذا تتركون عبادته لتعبدوا هذا الفقير بزعمكم؟ ساء ما يحكمون، قال الله سبحانه: {فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ} [الأنعام:136].