فضائل معاذ بن جبل

المسألة الثالثة والعشرون: فضيلة معاذ بن جبل وذكرنا أن معاذاً رضي الله تبارك وتعالى عنه يقدم العلماء وفي الحديث الذي رواه أبو نعيم في الحلية ورواه الطبراني أيضاً: (معاذ يحشر يوم القيامة أمام العلماء برتوة) هذا حديث صحيح والرتوة بمعنى خطوة أو بمعنى رمية بحجر، فهو سابق للعلماء يوم القيامة رضي الله تبارك وتعالى عنه وكانت له حكم عظيمة.

فروى الإمام أبو داود بإسناد صحيح أن معاذاً رضي الله تبارك وتعالى عنه كان لا يجلس مجلساً للذكر حين يجلسه إلا قال: الله حكم قسط، هلك المرتابون المتشككون وقد روى هذا عن معاذاً يزيد بن عميرة وكان من أصحاب معاذ رضي الله عنه، قال يزيد فقال معاذ بن جبل يوماً: إن من ورائكم فتناً يكثر فيها المال.

ومعاذ لم يطلع الغيب، فيكون أنه أخبره النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، قال: (ويفتح فيها القرآن)، أي: أن الله سيفتح عليهم فيحفظون القرآن، قال: حتى يأخذه المؤمن والمنافق أي: حتى يحفظ القرآن المؤمن والمنافق والرجل والمرأة والصغير والكبير والعبد والحر فيوشك قائل أن يقول: ما للناس لا يتبعوني وقد قرأت القرآن ما هم بمتبعي حتى أبتدع لهم غيره أي: سأصنع لهم بدعة من البدع لكي أجمعهم حولي، وهذا أصل البدع وذلك أن الإنسان يحب أن يجمع الناس من حوله حتى يكون له أتباع قال معاذ رضي الله عنه: فإياكم وما ابتدع فإنما ابتدع ضلالة، وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: (كل بدعة ضلالة)، قال معاذ: وأحذركم زيغة الحكيم يعني: يمكن للإنسان أن يكون عالماً وحليماً لكنه قد يزيغ أحياناً ويقع في الغلط، فأحذركم زيغة الحكيم، فإن الشيطان قد يقول كلمة الضلالة على لسان الحكيم.

قال يزيد: قلت لـ معاذ: وما يدريني -رحمك الله- أن الحكيم قد يقول كلمة الضلالة وأن المنافق قد يقول كلمة الحق؟ قال معاذ رضي الله عنه: بلى اجتنب من كلام الحكيم المشتهرات التي يقال لها: ما هذه؟ ولا يثنينك ذلك عنه، هذا كلام العلماء والحكماء ومعاذ عالم وحكيم رضي الله عنه، فلو كل إنسان أخطأ تركناه وابتعدنا عنه لأوشك الإنسان ألا يجد أحداً يتبعه، والعالم قد يهفو وقد يصبو وقد يقع في الخطأ، وكونه وقع في الخطأ مرة فليس معناه أنك تتركه.

فالعالم غير معصوم قد يقع في شيء من الخطأ ولكن لا تتركه فتخسر علماً كثيراً، قال: فإنه لعله أن يراجع نفسه ويقول: أنا أخطأت في هذا الشيء، وتلقى الحق إن سمعته فإن على الحق نوراً.

يعني: حين تسمع الحق من أي إنسان صغيراً أو كبيراً اقبل منه هذا الحق فإن على الحق نوراً.

ومعاذ بن جبل كان أعلم الصحابة بالحلال والحرام وكان من حكمائهم أيضاً رضي الله تبارك وتعالى عنه، وكان جميلاً طويلاً بساماً، وكان جميل المنظر من رآه أحبه ومن ذهب إلى مسجده ورآه أحبه وإن كان لا يعرف من هو، ذهب إليه رجل من التابعين فوجده في المسجد وحوله الناس إذا تكلم استمعوا له ويتبسم للناس، فسأل: من هذا؟ أو ذهب إليه وقال: إني والله أحبك في الله.

وقد أسلم قديماً رضي الله تبارك وتعالى عنه وكان صغيراً حين أسلم، ولما رجع الأنصار بعد بيعة النبي صلى الله عليه وسلم في العقبة الثانية أظهروا الإسلام في المدينة وكان هناك بقايا من شيوخ أهل المدينة منهم عمرو بن الجموح رضي الله تبارك وتعالى عنه وكان له ابن اسمه معاذ بن عمرو بن الجموح من بني سلمة وكان معاذ بن جبل يومئذ فتى فأسلم معاذ بن جبل ومعاذ بن عمرو وأسلم فتيان معهم بإسلامهم، وكان عمرو بن الجموح سيداً في قومه وكان يعبد صنماً يسميه مناف أو مناة، من دون الله سبحانه وتعالى وكان عادة أهل الجاهلية في جاهليتهم أن الأشراف الكبار لا يعبدون الأصنام التي يعبدها الناس بل يكون للشريف صنم لوحده في البيت يعبده من دون الله سبحانه وتعالى، فاتخذ هذا الصنم من خشب في بيته فسماه مناة أو مناف فلما أسلم فتيان بني سلمة ومنهم معاذ بن جبل رضي الله عنه، وكان معاذ بن جبل ومعاذ بن عمرو يدلجون بالليل على الصنم الذي لـ عمرو بن الجموح فيحملونه ويطرحونه في بعض الحفر يريدون الرجل أن يسلم، فيأخذون الصنم الذي له ويذهبون به إلى البئر الذي فيه نجاسة ويرمونه بداخله، ويصبح عمرو بن الجموح يبحث عن إلهه الذي كان يعبده، ويجده في بئر النجاسة، فيأخذه ويطيبه ويرده إلى مكانه مرة أخرى.

وأسلم الناس وكان الذي يعلمهم الإسلام في المدينة مصعب بن عمير رضي الله تبارك وتعالى عنه، وذهب مصعب ليقابل عمرو بن الجموح فقال له: ما هذا الذي جئتمونا به؟ فقال مصعب رضي الله عنه: إن شئت جئناك فأسمعناك الذي جئنا به، فقال له: نعم، وكان رجلاً عاقلاً، لكن في عبادة غير الله سبحانه وتعالى لم يكن عاقلاً، فقرأ عليه مصعب بن عمير صدراً من سورة يوسف فـ عمرو سمع القرآن وأعجبه، ولكن أيضاً ما زال يعبد الصنم، فقال: إن لنا مؤامرة مع قومنا يعني -مشاورة مع قومنا- فاتركنا نتشاور مع قومنا فخرج مصعب ودخل هو على التمثال الذي له، وكانت عقول أهل الجاهلية في أمر الشرك بالله سبحانه وتعالى في قمة السخافة لأجل هذا لا تعجب أن تجد عالماً في الفلك وعالماً في الفضاء ثم يعبد صنماً من دون الله سبحانه وتعالى، فالله يعطيه عقلاً في بعض الأمور ويسلب منه هذا العقل في أمور أخرى، فإذا به يعبد غير الله وهذا الرجل كان سيداً في قومه وشريفاً من شرفائهم ويرجعون إليه في المشورة ومع ذلك يعبد هذا الصنم، فذهب عمرو بن الجموح إلى التمثال يكلمه فقال: يا مناف أو يا مناة تعلم والله ما يريد القوم غيرك، فهل عندك من نكير؟ أي: هل تستطيع أن ترد عليهم أو تستطيع أن تصنع فيهم شيئاً؟ ثم علق عليه سيفه وقال: دافع به عن نفسك أمام هؤلاء القوم، وفي اليوم الثاني إذا بـ معاذ بن جبل ومعاذ بن عمرو يأخذون هذا التمثال ويرمونه في الحفرة، وفي يوم من الأيام خرج عمرو بن الجموح وقال لأهل بيته: أنا ذاهب للمال الذي لي أوصيكم خيراً بالإله، أوصيكم خيراً بمناة، وخرج وترك مع هذا التمثال سيفه، ورجع إليهم فوجدهم قد كسروا التمثال وألقوه في النجاسة وأخذوا السيف منه فنظر إلى التمثال ثم قال: أف لك: والله لو كنت إلهاً لم تكن أنت وكلب وسط بئر في قرن أف لملقاك إلهاً مستدن الآن فتشناك عن سوء الغبن الحمد لله العلي ذي المنن الواهب الرزاق ديان الدين هو الذي أنقذني من قبل أن أكون في ظلمة قبر مرتهن وجمع بني سلمة وقال لهم: أي إنسان أنا فيكم؟ قالوا: أنت سيدنا، قال: ألستم على ما أنا عليه؟ قالوا: نعم، قال: فإني أشهدكم أني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فأسلم القوم بإسلامه رضي الله تبارك وتعالى عنه، هذا عمرو بن الجموح الذي جاء في يوم أحد وكان أعرج رضي الله تبارك وتعالى عنه وسمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين) فقام يريد القتال وأولاده يقولون له: أنت أعرج وقد عذرك الله فقال: والله لأطأن عليها في الجنة فقاتل حتى قتل رضي الله تبارك وتعالى عنه لقد أنقذه الله عز وجل من الشرك، وبعد فترة يسيرة من إسلامه قتل شهيداً رضي الله تبارك وتعالى عنه فكان الفضل لله عز وجل ثم لـ معاذ بن جبل ولـ معاذ بن عمرو بن الجموح ولـ مصعب بن عمير رضي الله تبارك وتعالى عنهم أن دلوه على دين الله سبحانه وتعالى.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015