أقوال العلماء في مسألة العذر بالجهل

من أقول الأئمة رضوان الله عليهم في هذه المسألة ما قاله الإمام الشافعي رحمه الله: لله تعالى أسماء وصفات جاء بها كتابه وأخبر بها نبيه صلى الله عليه وسلم أمته، لا يسع أحد من خلق الله قامت عليه الحجة ردها؛ لأن القرآن نزل بها، وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم القول بها فيما روى عنه العدول.

أي: أن أسماء الله وصفاته سبحانه وتعالى التي جاءت في القرآن والسنة واجب على المسلمين أن يؤمنوا بها، ولا يجوز لهم أن يردوها، فإن خالف أحد ما جاء في القرآن والسنة من أسماء الله عز وجل وصفاته بعد إقامة الحجة عليه فهو كافر، أما قبل ثبوت الحجة.

فمعذور بالجهل قال الشافعي؛ لأن علم ذلك لا يدرك بالعقل ولا بالرؤية والفكر، ولا يكفر بالجهل بها أحد إلا بعد انتهاء الخبر إليه.

والغرض من كلام الإمام رحمة الله عليه: أن الإنسان إذا لم يصله الخبر في الأمر فوقع في شيء يكفر به وهو لا يعلم فإنه يعذر بجهله في ذلك.

يقول الخطابي في كتابه معالم السنن بعد أن ذكر حكم مانعي الزكاة: وأن الصحابة قاتلوهم، سواء من أنكر الزكاة فقاتلوه على أنه مرتد، أو من منعها متأولاً، فقاتلوا الجميع، ولكن لم يكفروا الجميع، وإنما كفروا من منعها إنكاراً لها فهذا مرتد عن دين الله سبحانه أما من تأول فيه فقوتل قتال البغاة.

يقول رحمه الله: إذا أنكرت طائفة من المسلمين في زماننا فرض الزكاة وامتنعوا عن آدائها هل يكون حكمهم حكم أهل البغي؟ قال: لا، فإن من أنكر فرض الزكاة في هذه الأزمان كان كافراً بإجماع المسلمين.

يقول رحمه الله: الفرق بين هؤلاء وأولئك أنهم إنما عذروا لأسباب وأمور لا يحدث مثلها في هذا الزمن، يعني: أن الذين كانوا في عهد أبي بكر رضي الله عنه لما مات النبي صلى الله عليه وسلم عذروا بأسباب وأمور ليست موجودة الآن، فكانوا يتأولون ويقولون: إن الله يقول: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة:103]، وهذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم فهو الذي يأخذ من أموالنا، وقد مات صلى الله عليه وسلم، ولا أحد يقوم مقامه.

فعلى ذلك عذروا بجهلهم فلم يكفروا، ولكن من يقول ذلك في زماننا فلا يعذر بجهله، فقد استتب الأمر وعلم أن من أركان هذا الدين العظيم: إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، فمن أنكر الزكاة لا يقال عنه: إنه متأول كما تأول أولئك، فقد استقر الأمر وبلغ العلم للجميع في أمر الصلاة، وفي أمر الصوم, وفي أمر الزكاة.

يقول رحمه الله: منها -أي: من الأسباب التي جعلت أولئك يعذرون بجهلهم- أن القوم كانوا جهالاً بأمور الدين وكان عهدهم بالإسلام قريباً، فدخلتهم الشبهة فعذروا، فأما اليوم وقد شاع دين الإسلام واستفاض في المسلمين علم وجوب الزكاة حتى عرفها الخاص والعام واشترك فيها العالم والجاهل فلا يعذر أحد بتأويل يتأوله.

فمنكر الزكاة الآن لا يقال: إنه معذور، بل هو كافر، وكذلك الصلاة، فمن جحدها وأنكرها بعدما بلغه من كتاب الله سبحانه، ومن حديث النبي صلى الله عليه وسلم في الأمر بها، فهو كافر كفراً أكبر مخرجاً من الملة.

يقول رحمه الله: هذا إذا كان العلم منتشراً كالصلوات الخمس، وصوم رمضان، والاغتسال من الجنابة، وتحريم الزنا، وتحريم الخمر، ونكاح المحارم، ونحوها من الأحكام.

فهذه أشياء عرفها الجميع الخاص والعام، وانتشرت في بلام المسلمين، وإنما يعذر بجهلها من ليس في بلاد المسلمين ممن لم تبلغه فرضيتها، كالرجل الذي زنا وهو في الشام ولم يعلم أن الزنا حرام، فعذر بجهله في ذلك.

يقول رحمه الله: إلا أن يكون رجلاً حديث العهد بالإسلام، ولا يعرف حدود الإسلام فإنه إذا أنكر شيئاً منها جهلاً به لم يكفر، وكان سبيله سبيل أولئك القوم في بقاء اسم الدين عليهم.

وقد يكون من أمور الدين ما هو مجمع عليه، ولكن لا يعلم ذلك جميع الناس، فلا يكفر من أنكرها.

يقول رحمه الله: فأما ما كان الإجماع فيه معلوم من طريق علم الخاصة كتحريم الزواج بالمرأة على عمتها وخالتها، فمن أنكره جاهلاً لم يكفر.

أي: ليس كل الناس يعرفون عدم جواز أن يتزوج الرجل المرأة وعمتها، أو المرأة وخالتها، وإن كان هذا الحكم مجمعاً عليه، فمن أنكر ذلك جاهلاً فلا يكفر، أما من جحد ذلك بعد معرفته الإجماع في المسألة فإنه يكفر.

وكذلك من جهل أن القاتل عمداً لا يرث، وأنكر هذا الحكم فإنه لا يكفر، وإن كان هذا الحكم معروفاً عند العلماء، ولكنه ليس معروفاً عند آحاد الناس.

وكذلك معرفة أن الجدة ترث السدس، فليس كل الناس يعرف أحكام المواريث، فحتى لو كان مجمعاً عليه وأنكره إنسان لجهله بالإجماع فإنه لا يكفر بذلك.

وفي هذه المسألة كلام لـ ابن قدامة رحمه الله في كتابه المغني، يقول فيمن جحد الصلاة: الجاحد لوجوبها إذا كان ممن لا يجهل مثله ذلك، فإن كان ممن لا يعرف الوجوب كحديث الإسلام والناشئ بغير دار الإسلام أو ببادية بعيدة من الأمصار وأهل العلم لم يحكم بكفره.

فهذا معذور بجهله؛ لأنه وإن سمع بالإسلام إلا أنه لم يعرف الصلاة فأنكرها.

ولذلك فإنه سيأتي يوم من الأيام لا يعرف الناس إلا لا إله إلا الله، فلا يعرفون صلاة ولا صوماً إلا هذه الكلمة يعرفها بعض عجائزهم.

ولما روى حذيفة بن اليمان رضي الله عنه هذا الحديث قال صلة بن زفر: وما تغني عنهم: لا إله إلا الله، فلم يرد عليه، ثم سأله ثانياً وثالثاً فالتفت إليه في الثالثة، وقال: تنقذه من النار.

فهؤلاء لما كثر شرار الخلق ورفع علم الدين صاروا جهالاً لا يعرفون شيئاً عن الدين، وكما ذكرنا قبل أنه سيأتي يوم من الأيام -نسأل الله عز وجل ألا يدركنا- يرفع فيه العلم، ويرفع فيه القرآن، ويبقى في الأرض شرار الخلق، لا يعرف إلا القليل منهم كلمة لا إله إلا الله، سمعوها من أجدادهم ومن آبائهم.

ومن كلام أهل العلم في العذر بالجهل ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في الرد على البكري يقول: كنت أقول للجهمية من الحلولية الذين يزعمون أن الله يحل في الأشياء -حاشا الله تعالى عن ذلك- وكذلك النفاة الذين ينفون أن يكون الله تعالى فوق عرشه، يقول: أنا لو وافقتكم كنت كافراً؛ لأني أعلم أن قولكم كفر، وأنتم عندي لا تكفرون؛ لأنكم جهال، فهذا بعض كلام الأئمة في أمر العذر بالجهل.

والذي ينبغي أن ينتبه له في هذه المسألة أنه لا ينبغي فتح الباب في العذر بالجهل فتحاً كبيراً يجعل العوام يفعلون المعاصي، ويقعون في الكبائر والكفر بالله سبحانه، ويجعلهم يتهاونون بسبب هذه القاعدة.

ولا يضيق الأمر فيكفر المسلمون، ولكن عند الحاجة لذلك، فالقاضي الذي يحكم في قضايا الكفر قد يحكم بالكفر على أناس ويأتي إلى إنسان بعينه فلا يكفره، وإنما يعذره بجهله.

وفي قضية من القضايا يقول فيها: من فعل كذا فقد كفر، دون أن يكفر المعين بعينه، فلعله يكون له عذر من الأعذار عند الله سبحانه.

والله أعلم.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015