ذكر عكوفهم على قبورهم قبل تصويرهم تماثيلهم. وذلك من وسائل الشرك بل هو الشرك؛ لأن العكوف لله في المساجد عبادة. فإذا عكفوا على القبور صار عكوفهم تعظيما ومحبة: عبادة لها.

قوله: "ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم" أي طال عليهم الزمان. وسبب تلك العبادة والموصل إليها هو ما جرى من الأولين من التعظيم بالعكوف على قبورهم، ونصب صورهم في مجالسهم، فصارت بذلك أوثانا تعبد من دون الله، كما ترجم به المصنف - رحمه الله تعالى -. فإنهم تركوا بذلك دين الإسلام الذي كان أولئك عليه قبل حدوث وسائل هذا الشرك، وكفروا بعبادة تلك الصور واتخذوهم شفعاء. وهذا أول شرك حدث في الأرض.

قال القرطبي: "وإنما صوّر أوائلهم الصور ليتأسوا بهم ويتذكروا أفعالهم الصالحة، فيجتهدوا كاجتهادهم، ويعبدوا الله عند قبورهم. ثم خلفهم قوم جهلوا مرادهم، فوسوس لهم الشيطان أن أسلافهم كانوا يعبدون هذه الصور ويعظمونها" اهـ.

قال ابن القيم - رحمه الله -: "وما زال الشيطان يوحي إلى عُبّاد القبور ويُلقي إليهم أن البناء والعكوف عليها من محبة أهل القبور من الأنبياء والصالحين، وأن الدعاء عندها مستجاب، ثم ينقلهم من هذه المرتبة إلى الدعاء بها، والإقسام على الله بها، فإن شأن الله أعظم من أن يقسم عليه أو يسأل بأحد من خلقه.

فإذا تقرر ذلك عندهم نقلهم منه إلى دعائه وعبادته; وسؤاله الشفاعة من دون الله، واتخاذ قبره وثنا تعلق عليه القناديل والستور، ويطاف به ويستلم ويقبّل، ويحج إليه ويذبح عنده، فإذا تقرر ذلك عندهم نقلهم منه إلى دعاء الناس إلى عبادته، اتخاذه عيدا ومنسكا، ورأوا أن ذلك أنفع لهم في دنياهم وأخراهم. وكل هذا مما قد

علم بالاضطرار من دين الإسلام أنه مضاد لما بعث الله به رسوله صلي الله عليه وسلم من تجديد التوحيد، وأن لا يعبد إلا الله.

فإذا تقرر ذلك عندهم، نقلهم منه إلى أن من نهى عن ذلك فقد تنقص أهل هذه الرتب العالية وحطهم عن منزلتهم، وزعم أنه لا حرمة لهم ولا قدر، فغضب المشركون واشمأزت قلوبهم، كما قال تعالى: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} 1. وسرى ذلك في نفوس كثير من الجهال والطغام، وكثير ممن ينتسب إلى العلم والدين، حتى عادوا أهل التوحيد ورموهم

طور بواسطة نورين ميديا © 2015