يقول السائل: كثرت في بلدنا ظاهرة التسول داخل المساجد فما أن ينتهي الإمام من الصلاة بالسلام إلا وتفاجأ بتشويش المتسول على الذاكرين والمسبوقين المصلين وهو يطالب الناس بالمساعدة وإظهار المسكنة فسؤالي ما حكم التسول داخل المسجد؟ وهل يجوز للإمام أو أحد المكلفين بالمسجد أن يطالب المتسول مدعي الفقر الخروج من المسجد؟ وهل يعتبر حينئذ مخالفاً لقوله تعالى: {وأما السائل فلا تنهر} ؟ وما صحة ما يقال: أن أحد السلف قال: لو كنت قاضياً لرددت شهادة كل من يعطي متسولاً داخل المسجد؟ ، أفيدونا.
الجواب: التسول هو طلب الصدقات من الناس في الأماكن العامة والبيوت والمساجد، والمتسول هو من يحترف مهنة التسول فأصبحت مهنته وصنعته، ومن المتسولين من يمضي حياته متسولاً، ومنهم من تبين بعد موته أنه يملك أموالاً طائلة، والحوادث في ذلك كثيرة، وقد انتشرت ظاهرة التسول وكثرت بشكل كبير ويعود ذلك لعدة عوامل منها الأحوال الصعبة التي يعشها شعبنا الفلسطيني من الحصار والإغلاق وقلة الأعمال وغير ذلك، والأصل في الشرع أن التسول حرام شرعاً إلا لضرورة أو حاجة ماسة وفق ضوابط معينة، قال أبو حامد الغزالي: [السؤال حرام في الأصل وإنما يباح بضرورة أو حاجة مهمة قريبة من الضرورة فإن كان عنها بدٌ فهو حرام، وإنما قلنا إن الأصل فيه التحريم لأنه لا ينفك عن ثلاثة أمور محرمة: الأول: إظهار الشكوى من الله تعالى إذ السؤال إظهار للفقر وذكر لقصور نعمة الله تعالى عنه وهو عين الشكوى وكما أن العبد المملوك لو سأل لكان سؤاله تشنيعاً على سيده فكذلك سؤال العباد تشنيع على الله تعالى وهذا ينبغي أن يحرم ولا يحل إلا لضرورة كما تحل الميتة.
الثاني: أن فيه إذلال السائل نفسه لغير الله تعالى وليس للمؤمن أن يذل نفسه لغير الله بل عليه أن يذل نفسه لمولاه فإن فيه عزه، فأما سائر الخلق فإنهم عباد أمثاله فلا ينبغي أن يذل لهم إلا لضرورة وفي السؤال ذل للسائل بالإضافة إلى المسؤول.
الثالث: أنه لا ينفك عن إيذاء المسؤول غالباً لأنه ربما لا تسمح نفسه بالبذل عن طيب قلب منه فإن بذل حياءً من السائل أو رياءً فهو حرام على الآخذ وإن منع ربما استحيا وتأذى في نفسه بالمنع إذ يرى نفسه في صورة البخلاء ففي البذل نقصان ماله وفي المنع نقصان جاهه وكلاهما مؤذيان والسائل هو السبب في الإيذاء والإيذاء حرام إلا بضرورة] إحياء علوم لدين 4 / 205.
وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن السؤال في المسجد فقال: [أصل السؤال محرَّم في المسجد وخارج المسجد إلا لضرورة، فإن كانت ضرورة وسأل في المسجد ولم يؤذ أحدًا كتخطيه رقاب الناس، ولم يكذب فيما يرويه ويذكر من حاله ولم يجهر جهراً يضر الناس مثل أن يسأل والخطيب يخطب، أو وهم يسمعون علماً يشغلهم به ونحو ذلك جاز.] نقلاً عن غذاء الألباب للسفاريني 2 / 267.
وقد وردت أدلة كثيرة تنهى عن التسول، وسؤال الناس من غير ضرورة أو حاجة ملحة منها:
حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما يزال الرجل يسأل الناس حتى يأتي يوم القيامة ليس في وجهه مزعة لحم) رواه البخاري ومسلم.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من سأل الناس أموالهم تكثراً فإنما يسأل جمراً فليستقل أو ليستكثر) . رواه مسلم.
وعن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن المسألة كدٌ يكد بها الرجل وجهه إلا أن يسأل الرجل سلطاناً أو في أمر لا بد منه) رواه الترمذي وقال: حسن صحيح.
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أصابته فاقة فأنزلها بالناس لم تسد فاقته ومن أنزلها بالله أوشك الله له بالغنى إما بموت عاجل، أو غنى عاجل) رواه أبو داود والترمذي وقال: حسن صحيح.
وعن قبيصة بن مخارق الهلالي رضي الله عنه قال: تحملت حمالةً فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (أقم حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها، قال: ثم قال: (يا قبيصة إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة، رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك، ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله فحلَّت له المسألة حتى يصيب قواماً من عيش أو قال سداداً من عيش، ورجل أصابته فاقة حتى يقوم ثلاثة من ذوي الحجا من قومه لقد أصابت فاقة فحلت له المسألة حتى يصيب قواماً من عيش أو قال سداداً من عيش فما سواهن في المسألة، يا قبيصة سحتاً يأكلها صاحبها سحتاً) رواه مسلم.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (والذي نفسي بيده لأن يأخذ أحدكم حبله فيحتطب على ظهره فيتصدق به على الناس: خيرٌ له من أن يأتي رجلاً فيسأله أعطاه أو منعه) رواه البخاري ومسلم.
وعن سهل بن الحنظلية رضي الله عنه قال: قال: قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم عيينة ابن حصن والأقرع بن حابس، فسألاه فأمر لهما بما سألاه وأمر معاوية فكتب لهما بما سألا فأما الأقرع: فأخذ كتابه فلفه في عمامته وانطلق وأما عيينة: فأخذ كتابه فأتى النبي صلى الله عليه وسلم بكتابه فقال: يا محمد أراني حاملاً إلى قومي كتاباً لا أدري ما فيه كصحيفة المتلمس فأخبر معاوية بقوله رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من سأل وعنده ما يغنيه: فإنما يستكثر من النار) وفي لفظ: (من جمر جهنم قالوا: يا رسول الله وما يغنيه) وفي لفظ: (وما الغنى الذي لا تنبغي معه المسألة قال: قدر ما يغديه وما يعشيه) وفي لفظ: (أن يكون له شِبع يومٍ وليلة) رواه الإمام أحمد وأبو داود وصححه العلامة الألباني في صحيح سنن أبي داود 1/306-307. - وصحيفة الملتمس: مثل يضرب للذي يحمل أسباب هلاكه، من غير أن يدري، وله قصة مشهورة في كتب الأدب – وغير ذلك من الأحاديث.
إذا تقرر هذا فإنه يجب منع المتسولين داخل المساجد لما يحدثونه من التشويش على المصلين والذاكرين، وأرى أن لا يعطوا شيئاً إذا سألوا داخل المسجد، وإنما يقفون على أبواب المسجد أو في ساحاته من غير تشويش على أهل المسجد، وخاصة أن كثيراً من المتسولين ليسوا أصحاب حاجةٍ حقيقيةٍ وإنما هم محترفون لمهنة التسول والشحاذة، والمساجد يجب أن تنزه عن مثل هذه الأمور، فالمساجد بنيت لعبادة الله عز وجل بإقامة الصلاة وتلاوة القرآن الكريم وتعليم العلم النافع وغير ذلك مما ينفع المسلمين، ولا يجوز أن تكون المساجد لنشد الضالة أو للبيع والشراء أو للتسول والشحاذة، فقد ورد في الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم: (نهى عن البيع والشراء في المسجد وأن تنشد فيه ضالة وأن ينشد فيه شعر ونهى عن التحلق قبل الصلاة يوم الجمعة) رواه الترمذي وأبو داود والنسائي وابن ماجة وهو حديث حسن كما قال الترمذي وحسنه العلامة الألباني أيضاً في صحيح سنن أبي داود 1/201.
وأما قوله تعالى {وأما السائل فلا تنهر} سورة الضحى الآية 10، فقد قال أهل التفسير إن الآية المذكورة تحمل على السائل عن العلم وعلى السائل للصدقة، قال ابن كثير: {وأما السائل فلا تنهر} أي: وكما كنت ضالاً فهداك الله، فلا تنهر السائل في العلم المسترشد.] تفسير ابن كثير 6/483. وقال الطبري: [وأما من سألك من ذي حاجة فلا تنهره، ولكن أطعمه واقض له حاجته] تفسير الطبري.
وقال القرطبي: [وأما السائل فلا تنهر، أي لا تزجره فهو نهي عن إغلاظ القول، ولكن رُدَّه ببذلٍ يسير، أو ردٍّ جميل.] تفسير القرطبي 20/101. وعدم السماح للمتسولين بالسؤال داخل المساجد لا يتنافى مع الآية الكريمة.
وأما القول المنسوب لأحد السلف وهو: [لو كنت قاضياً لرددت شهادة كل من يعطي متسولاً داخل المسجد] فقد وجدته بعد البحث والتقصي منسوباً لخلف بن أيوب العامري البلخي المتوفى سنة 215 هـ، وهو فقيه أهل بلخ وزاهدهم أخذ الفقه عن أبي يوسف ومحمد صاحبي أبي حنيفة وابن أبي ليلى والزهد عن إبراهيم بن أدهم، ونسبه إليه ابن مفلح المقدسي الحنبلي: [قال خلف بن أيوب لو كنت قاضياً لم أقبل شهادة من تصدق عليه] الآداب الشرعية 3/ 394. ونقل ابن مفلح أيضاً قول أبي مطيع البلخي الحنفي: لا يحل للرجل أن يعطي سؤَّال المسجد. وخلاصة الأمر أن الأصل في الشحاذة والتسول التحريم إلا لضرورة أو حاجة ملحة وينبغي للمسؤلين عن المساجد منع المتسولين داخل المساجد، ويجوز إعطاء المتسولين خارج المساجد إن كانوا صادقين، ومشكلة التسول تحتاج إلى حل تسهم فيه الجهات الرسمية والخيرية.