يقول السائل: كيف نوفق بين الحديثين التاليين، قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أسألك اللهم بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك) ، وقوله صلى الله عليه وسلم: (إن لله تسعة وتسعين اسماً، من حفظها دخل الجنة) ، أفيدونا.
الجواب: أما الحديث الأول فهو ثابت من حديث ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما أصاب أحداً قط همٌ ولا حَزَنٌ، فقال: اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماضٍ فيَّ حكمك، عدلٌ فيَّ قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك، سمَّيت به نفسك، أو علمته أحداً من خلقك، أو أنزلته في كتابك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيع قلبي ونور صدري وجلاء حَزَني وذهاب همي. إلا أذهب الله همه وحَزَنَه وأبدله مكانه فرجاً. قال: فقيل: يا رسول الله ألا نتعلمها؟ فقال بلى ينبغي لمن سمعها أن يتعلمها) رواه الإمام أحمد وابن حبان والحاكم وصححه، وهو حديث صحيح كما قال العلامة الألباني في السلسلة الصحيحة 1/337. وأما الحديث الثاني فقد ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن لله تسعةً وتسعين اسماً، من حفظها دخل الجنة، والله وتر يحب الوتر) . وفي رواية: (من أحصاها) رواه البخاري ومسلم. وقد قرر أهل العلم أن لا تعارض بين الحديثين، وقالوا إن أسماء الله الحسنى ليست محصورة في تسعة وتسعين اسماً، بل أسماء الله الحسنى لا يحصرها العدد، وهذا مذهب جماهير أهل العلم، قال الإمام البيهقي [باب بيان أن لله جل ثناؤه أسماء أخرى، وليس في قول النبي صلى الله عليه وسلم: لله تسعة وتسعون اسماً نفي غيرها] الأسماء والصفات 1/27. وقال الإمام النووي: [واتفق العلماء على أن هذا الحديث - أي حديث إن لله تسعةً وتسعين اسماً- ليس فيه حصر لأسمائه سبحانه وتعالى، فليس معناه أنه ليس له أسماء غير هذه التسعة والتسعين، وانما مقصود الحديث أن هذه التسعة والتسعين من أحصاها دخل الجنة، فالمراد الإخبار عن دخول الجنة بإحصائها لا الإخبار بحصر الأسماء، ولهذا جاء في الحديث الآخر: (أسألك بكل اسم سميت به نفسك أو استأثرت به في علم الغيب عندك) ، وقد ذكر الحافظ أبو بكر بن العربي المالكي عن بعضهم أنه قال: لله تعالى ألف اسم، قا ابن العربي: وهذا قليل فيها والله أعلم] شرح النووي على صحيح مسلم 6/177. وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني: [وقد اختلف في هذا العدد هل المراد به حصر الأسماء الحسنى في هذه العدة أو أنها أكثر من ذلك ولكن اختصت هذه بأن من أحصاها دخل الجنة؟ فذهب الجمهور إلى الثاني - ثم نقل كلام النووي السابق- ثم قال: وقال الخطابي: في هذا الحديث إثبات هذه الأسماء المخصوصة بهذا العدد وليس فيه منع ما عداها من الزيادة، وإنما للتخصيص لكونها أكثر الأسماء وأبينها معاني، وخبر المبتدأ في الحديث هو قوله " من أحصاها " لا قوله " لله " وهو كقولك لزيد ألف درهم أعدها للصدقة، أو لعمرو مائة ثوب من زاره ألبسه إياها. وقال القرطبي في " المفهم " نحو ذلك، ونقل ابن بطال عن القاضي أبي بكر بن الطيب قال: ليس في الحديث دليل على أنه ليس لله من الأسماء إلا هذه العدة، وإنما معنى الحديث أن من أحصاها دخل الجنة، ويدل على عدم الحصر أن أكثرها صفات وصفات الله لا تتناهى ... ] فتح الباري 9/263-264. [وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية عمن قال: لا يجوز الدعاء إلا بالتسعة والتسعين اسماً، ولا يقول: يا حنان، يا منان، ولا يقول: يا دليل الحائرين، فهل له أن يقول ذلك؟ فأجاب: الحمد لله، هذا القول وإن كان قد قاله طائفة من المتأخرين كأبي محمد ابن حزم وغيره، فإن جمهور العلماء على خلافه، وعلي ذلك مضي سلف الأمة وأئمتها، وهو الصواب لوجوه: أحدها: أن التسعة والتسعين اسماً لم يرد في تعيينها حديث صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأشهر ما عند الناس فيها حديث الترمذي الذي رواه الوليد بن مسلم عن شعيب عن أبي حمزة، وحفاظ أهل الحديث يقولون: هذه الزيادة مما جمعه الوليد بن مسلم عن شيوخه من أهل الحديث، وفيها حديث ثان أضعف من هذا. رواه ابن ماجة. وقد روي في عددها غير هذين النوعين من جمع بعض السلف. وهذا القائل الذي حصر أسماء الله في تسعة وتسعين، لم يمكنه استخراجها من القرآن، وإذا لم يقم على تعيينها دليل يجب القول به لم يمكن أن يقال: هي التي يجوز الدعاء بها دون غيرها؛ لأنه لا سبيل إلى تمييز المأمور من المحظور. فكل اسم يجهل حاله، يمكن أن يكون من المأمور، ويمكن أن يكون من المحظور. وإن قيل: لا تدعوا إلا باسم له ذكر في الكتاب والسنة، قيل: هذا أكثر من تسعة وتسعين. الوجه الثاني: أنه إذا قيل تعيينها على ما في حديث الترمذي مثلاً، ففي الكتاب والسنة أسماء ليست في ذلك الحديث، مثل اسم الرب، فإنه ليس في حديث الترمذي، وأكثر الدعاء المشروع إنما هو بهذا الاسم، كقول آدم: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا} الأعراف: 23، وقول نوح: {قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ} هود: 47، وقول إبراهيم: {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ} إبراهيم: 41، وقول موسى: {قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} القصص: 16، وقول المسيح: {رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاء} المائدة: 114، وأمثال ذلك. حتى إنه يذكر عن مالك وغيره، أنهم كرهوا أن يقال: يا سيدي، بل يقال: يا رب، لأنه دعاء النبيين، وغيرهم، كما ذكر الله في القرآن. وكذلك اسم المنان، ففي الحديث الذي رواه أهل السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع داعياً يدعو: اللهم إني أسألك بأن لك الملك، أنت الله المنان، بديع السموات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام، يا حي يا قيوم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لقد دعا الله باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى) ، وهذا ردٌ لقول من زعم أنه لا يمكن في أسمائه المنان. وقد قال الإمام أحمد لرجلٍ ودَّعه، قل: يا دليل الحائرين، دلني على طريق الصادقين، واجعلني من عبادك الصالحين. وقد أنكر طائفة من أهل الكلام: كالقاضي أبي بكر، وأبي الوفاء ابن عقيل، أن يكون من أسمائه الدليل؛ لأنهم ظنوا أن الدليل هو الدلالة التي يستدل بها، والصواب ما عليه الجمهور؛ لأن الدليل في الأصل هو المعرف للمدلول، ولو كان الدليل ما يستدل به، فالعبد يستدل به أيضاً فهو دليل من الوجهين جميعاً. وأيضاً، فقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله وترٌ يحب الوتر) . وليس هذا الاسم في هذه التسعة والتسعين، وثبت عنه في الصحيح أنه قال: (إن الله جميل يحب الجمال) وليس هو فيها. وفي الترمذي وغيره أنه قال: (إن الله نظيف يحب النظافة) ، وليس هذا فيها، وفي الصحيح عنه أنه قال: (إن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا) وليس هذا فيها. وتتبع هذا يطول. ولفظ التسعة والتسعين المشهورة عند الناس في الترمذي: (الله. الرحمن. الرحيم. الملك. القدوس. السلام. المؤمن. المهيمن. العزيز. الجبار. المتكبر. الخالق. البارئ. المصور. الغفَّار. القهَّار. الوهاب. الرزاق. الفتاح. العليم. القابض. الباسط. الخافض. الرافع. المعز. المذل. السميع. البصير. الحكم. العدل. اللطيف. الخبير. الحليم. العظيم. الغفور. الشكور. العلي. الكبير. الحفيظ. المقيت. الحسيب. الجليل. الكريم. الرقيب. المجيب. الواسع. الحكيم. الودود. المجيد. الباعث. الشهيد. الحق. الوكيل. القوي. المتين. الولي. الحميد. المحصي. المبدئ. المعيد. المحيي. المميت. الحي. القيوم. الواجد. الماجد. الأحد ـ ويروي الواحد ـ الصمد. القادر. المقتدر. المقدم. المؤخر. الأول. الآخر. الظاهر. الباطن. الوالي. المتعالي. البر. التواب. المنتقم. العفو. الرؤوف. مالك الملك ذو الجلال والإكرام. المقسط. الجامع. الغني. المغني. المعطي. المانع. الضار. النافع. النور. الهادي. البديع. الباقي. الوارث. الرشيد. الصبور. الذي ليس كمثله شيء وهو السميع البصير) . ومن أسمائه التي ليست في هذه التسعة والتسعين، اسمه: السبوح، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: (سبوح قدوس) . واسمه الشافي كما ثبت في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول: (أذهب البأس رب الناس، واشف أنت الشافي، لا شافي إلا أنت شفاء لا يغادر سقماً) . وكذلك أسماؤه المضافة مثل: أرحم الراحمين، وخير الغافرين، ورب العالمين، ومالك يوم الدين، وأحسن الخالقين، وجامع الناس ليوم لا ريب فيه، ومقلب القلوب، وغير ذلك مما ثبت في الكتاب والسنة، وثبت في الدعاء بها بإجماع المسلمين، وليس من هذه التسعة والتسعين.
الوجه الثالث: ما احتج به الخطابي وغيره، وهو حديث ابن مسعود -وذكر الحديث السابق - ثم قال: والله في القرآن قال: {وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} الأعراف: 180، فأمر أن يدعى بأسمائه الحسني مطلقًا، ولم يقل: ليست أسماؤه الحسنى إلا تسعة وتسعين اسمًا، والحديث قد سلم معناه. والله أعلم.] مجموع الفتاوى 22/481-482. وللعلماء كلام طويل في المسألة لا يحتمله المقام.
وخلاصة الأمر أن أسماء الله الحسنى ليست محصورة في تسعة والتسعين اسماً، وخاصة أن التسعة والتسعين الواردة في حديث الترمذي وغيره ليست ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، بل الحديث ضعيف، وعليه فلا تعارض بين الحديثين المذكورين في السؤال، فيجوز الدعاء بكل اسم ثبت أنه من أسماء الله تعالى الحسنى.