وهكذا في الإقبال على الدنيا انقسموا إلى ثلاث طوائف، فقسم أكبوا على الدنيا وعظموا شأنها وركنوا إليها وأحبوها، وجعلوا دنياهم أكبر همهم ومبلغ علمهم وشغلوا بها أوقاتهم كلها وغلوا في حبها والتعلق بها وكأنهم قد نسوا الآخرة، بينما هناك آخرون قد زهدوا فيها وانقطعوا عن الاشتغال بأمر هذه الحياة، ولكن زهادتهم أوقعتهم في أنهم تركوا مصالح أنفسهم وانعزلوا عن الناس وعما الناس فيها وأضاعوا من تحت أيديهم، فلم يكتسبوا ما يغنون به أنفسهم وأضاعوا أولادهم دون أن يعطوهم ويكسوهم أو يرزقوهم، وما أشبه ذلك. فهؤلاء أيضا مخلون مقصرون. والأمر وسط بين ذلك. وهو أن الإنسان يطلب من الدنيا الكفاف والقوت، كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم اجعل رزق آل محمد كفافا" أي لا إفراط ولا تفريط. فلا ينقطع عن الدنيا انقطاعاً كلياً بحيث يضيع نفسه، ويعرض نفسه للحاجة والتكفف وسؤال الناس، ويعرض أهله للجوع والضنك وضيق المعيشة. ولا يجعل همه كله مكباً على الدنيا صارفا فيها هواه وأوقاته وحياته وناسيا آخرته وناسياً الأعمال التي تقربه إلى الله. لا هذا ولا ذاك. بل يشتغل لدنياه بقدر. ويشتغل لآخرته بقدر. ولا يبالغ في محبة الدنيا، المحبة التي تنسيه الآخرة، ولا يبالغ في التقصير فيها، التقصير الذي ينسيه حظ نفسه الذي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن لنفسه حقا. فهذا أيضاً مثلٌ للغلو والجفاء، والإفراط والتفريط.

رابعاً:-

طور بواسطة نورين ميديا © 2015