ƒـ[إنني مسلم تونسيّ سنيّ أشعريّ العقيدة مالكيّ المذهب. كما تعلمون، فقد جفت منابعنا بإيقاف التدريس بجامع الزيتونة الأعظم منذ سنة 1958 بالتقويم المسيحيّ. وقد بدأ تدريس العلوم الشرعيّة بالجامعة. ومن يمكن سؤاله عن المسائل الشرعيّة هو عادة أستاذ جامعيّ يعسر عادة الاقتراب منه وسؤاله. وما يزيد الأمر استفحالا هو دخول الجامعة للدراسة طلبة كفار وملحدون وأصحاب شبه وأهواء وملل منكرة ومشبوهة. ولكن يوجد المسلمون المخلصون إلا أنهم قليلون ويعسر التعرف عليهم. وما يغلب على الطلبة والمدرسين هو طلبهم للمال والدنيا مقابل دراستهم وتدريسهم. والكفار عند تخرجهم يحرفون ويغيرون العلوم الشرعيّة عند انتصابهم للتدريس أو الإجابة على أسئلة عامة الناس. فلا ارتياح إليهم. فأصبح عامة الناس يجهلون الكثير عن مسائل الشرع الإسلاميّ وكثر الخلاف والجدال. ومع هذه الصحوة المباركة لوحظ رجوع إلى الإسلام يتزايد يوما بعد يوم. وأصبح البعض يتعلم دينه عن الفضائيّات والكتب والأنترنت والسفر ... حتى رجعت الشيعة إلى تونس.
وقد ظهر في تونس أتباع الشيخ عبد الوهاب. فرحبنا بهم لعلمنا أنّ الشيخ عبد الوهاب رحمه الله تعالى عالم مسلم تقيّ ورع مجتهد. ولكنهم نسوا الأصول التي لا يعارضها أيّ عالم مسلم وراحوا يواجهون سائر المسلمين في تونس بالفروع مشددين عليها وكأنها هي الدين كله ويكادون يكفرون الأشعريّين في العقيدة أو من يتوسل بسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى، ويشددون النكير على من يحتفل بالمولد النبويّ الشريف وقد أوجبه علماؤنا المالكيّة والأحناف في زمننا الحالي في المغرب العربيّ الكبير وجوبا متأكدا ولكل مكان وزمان ظروفه وخصوصيّاته وما يصلح لبلد أو زمن لا يصلح بالضرورة لبلد أو زمن آخر.
ويدّعون كذلك وحدة الحقائق لعدم العمل بمذاهب أئمة السنة الأربعة. والمعلوم في الفروع أنّ الحقيقة واحدة عند الله تعالى وتتعدد مظاهرها عند المجتهدين من العلماء. والأصلح أن نقول أنّ في مسألة كذا آراء للعلماء وهي 1، 2، 3، ... والأرجح أو الأصح عندنا هو كذا. فهم لا يعترفون إلا برأيهم كمسألة التوسل بسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى، فإنهم لا يرون فيها إلا الحرميّة كما جاء في فقه الشيخ عبد الوهاب رحمه الله تعالى وهو الذي نقل هذا الرأي عن شيخ الإسلام أحمد بن تيمية وهو رأي شاذ انفرد به دون سواه من العلماء. ويرى غيره الجواز. فمن لا يعترف بالجواز ويعادي غيره في مسألة خلافيّة متعصب مذهبيّ.
وكان حريّا بهم أن يبتعدوا عن المسائل الخلافيّة والتآخي في الإسلام مركزين على الأصول ومتعاونين على تقدم هذه الأمة متجهين نحو ما سبقنا إليه إخواننا الشيعة من القيام بفروض الكفاية.
فإن الله تعالى سائلنا عن تأخرنا. وسبب ذلك هو إهمالنا لفروض الكفاية واشتغالنا بالمندوب والمباح. فالفرض مقدم على المندوب كما هو معلوم للجميع في أصول الفقه. فإنّ الأمة الإسلاميّة آثمة بالكليّة في كل فرع أو اختصاص علميّ تفوّق الكفار فيه علينا. وكذلك لماذا ليس لدينا اكتفاء ذاتيّ زراعي وصناعيّ واقتصاديّ ... ؟ كلنا آثمون من أجل ذلك. من أجل ضعفنا المترتب عن إهمالنا فروض الكفاية يتحكم فينا الغرب ويبتز أموالنا وطاقاتنا وأدمغتنا وخيراتنا. فلكم وددت لو قدمت معتمرا أو حاجا أن أستمع إلى الخطباء يحثوننا على تحقيق الاكتفاء الذاتيّ الزراعيّ مثلا عوضا عن حديثهم عن بدعة الاحتفال بالمولد النبويّ الشريف وهي من المسائل الفرعيّة الخلافيّة والواجبة عندنا والأولى تدخل في مسائل إجماع العلماء حول القيام بفروض الكفاية. فهذا إهدار لطاقات العلماء.
فما رأي فضيلتكم في مقالتي؟]ـ
^الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فنسأل الله عز وجل أن يعيد لهذه الأمة مجدها وصدارتها وقيادتها لأمم الأرض، وأن يعيد لدور العلم في بلاد المسلمين نضارتها وسموها وربانيتها.
وليس بوسع أحد أن ينكر الحالة المشينة التي وصلت إليها الأمة، إلا أن علاجها لا يعني ترك الاهتمام بتصحيح العقيدة وبتصفية السنة من شوائب البدع، فأمور العقيدة من الدين بمكان، ويجب بيانها للناس واضحة ناصعة. وكذلك يجب بيان السنة من البدعة، والبدع لا يختلف حكمها باختلاف الزمان والمكان، فالسنة سنة، والبدعة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
وعنداختلاف المجتهدين فالحق في قول واحد ومن عداه مخطئ، لكن المخطئ معذور غير آثم، بل له أجر على اجتهاده، وهذا هو القول الحق، خلافاً لمن قال: إن كل مجتهد مصيب.
وفصل النزاع في هذه المسألة ما ثبت في الحديث المتفق على صحته من أن: الحاكم إذا اجتهد فأصاب فله أجران، وإن اجتهد فأخطأ فله أجر. فإن الحديث صريح في أن الحق واحد، وأن بعض المجتهدين يوافقه فيقال له: مصيب مأجور أجرين على اجتهاده وإصابته، وبعض المجتهدين يخالفه فيقال له: مخطئ مأجور مرة واحدة على اجتهاده، واستحقاقه الأجر لا يستلزم كونه مصيباً؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم جعل المجتهدين قسمين قسما مصيباً وقسماً مخطئاً، ولو كان كل منهم مصيباَ -كما ذهب إليه من ذهب- لم يكن لهذا التقسيم معنى.
وقال الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: والصحيح أن كل مجتهد مصيب من حيث اجتهاده، أما من حيث موافقته للحق فإنه يخطئ ويصيب، ويدل قوله صلى الله عليه وسلم: فاجتهد فأصاب ... واجتهد فأخطا. فهذا واضح في تقسيم المجتهدين إلى مخطئ ومصيب، وظاهر الحديث والنصوص أنه شامل للفروع والأصول حيث دلت تلك النصوص على أن الله لا يكلف نفسًا إلا وسعها، لكن الخطأ المخالف لإجماع السلف خطأ ولو كان من المجتهدين، لأنه لا يمكن أن يكون مصيبًا والسلف غير مصيبين، سواء في علم الأصول أو الفروع. مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين.
وإذا ثبت أن الحق واحد لا يتعدد فجدير بالمسلم أن يتحرى الرأي الصائب الموافق للحق، وليست هذه دعوة إلى هجر فقه الأئمة الأعلام ونبذه، كلا وحاشا، وإنما هي دعوة إلى اتباع الدليل والدوران معه حيث دار، دون التعصب لإمام بعينه دون غيره، وهذا ما أوصانا به الأئمة الأعلام.
في اليواقيت والجواهر أنه روي عن أبي حنيفة رضي الله عنه أنه كان يقول: لا ينبغي لمن لم يعرف دليلي أن يفتي بكلامي. وكان رضي الله عنه إذا أفتى يقول: هذا رأي النعمان بن ثابت ـ يعني نفسه ـ وهو أحسن ما قدرنا عليه، فمن جاء بأحسن منه فهو أولى بالصواب.
وكان الإمام مالك رضي الله عنه يقول: ما من أحد إلا وهو مأخوذ من كلامه ومردود عليه؛ إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وروى الحاكم والبيهقي عن الشافعي رضي الله عنه أنه كان يقول: إذا صح الحديث فهو مذهبي.
وفي رواية: إذا رأيتم كلامي يخالف الحديث فاعملوا بالحديث واضربوا بكلامي الحائط.
وقال يوما للمزني: يا إبراهيم؛ لا تقلدني في كل ما أقول، وانظر في ذلك لنفسك فإنه دين، وكان رضي الله عنه يقول: لا حجة في قول أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن كثروا، ولا في قياس ولا في شيء، وما ثم إلا طاعة الله ورسوله بالتسليم.
وكان الإمام أحمد رضي الله عنه يقول: ليس لأحد مع الله ورسوله كلام. وقال أيضا لرجل: لا تقلدني ولا تقلدن مالكا، ولا الأوزاعي، ولا النخعي، ولا غيرهم، وخذ الأحكام من حيث أخذوا من الكتاب والسنة. الإنصاف للدهلوي.
وختاما نقول: إن اهتمامنا بتصحيح العقيدة وتصفية السنة لا يتعارض مع دعوتنا للمسلمين إلى الأخذ بأسباب القوة والتقدم، ونحن إذ نقرر هذا، فإننا نؤكد على اتباع الأسلوب الحكيم في الدعوة، والبدء بالأهم فالأهم، والحرص على وحدة المسلمين والبعد عن أسباب الفرقة.
وليس هناك تعارض بين التمسك بالسنة والحفاظ على هدي النبي عليه الصلاة والسلام خالصا صافيا من البدع والانحرافات العقدية، وبيان ذلك للناس، وبين الأخذ بأسباب التقدم المادي، ففي الفترة التي كان المسلمون متمسكون فيها بدينهم ومنهجهم سادوا العالم في المجالات الدنيوية، وفي الوقت الذي بعدوا فيه عن منهج الإسلام، صاروا أتباعا ذليلين لغيرهم في المجال المادي.
واعلم أخي الكريم أن أعظم أسباب تقدم المسلمين هو الرجوع إلى منهج الله في الحياة، فلا بد من إعادة تعبيد الناس لربهم، وبدون هذا فلن يستقيم حال الأمة بمجرد محاولة الأخذ بأسباب التقدم المادي بمعزل عن تصحيح العبودية لله جل وعلا وإقامه منهجه في الحياة.
فعن ابن عمر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم. رواه أبو داود وأحمد وصححه الألباني.
والقول بأن منع التوسل بذات النبي عليه الصلاة والسلام رأي شاذ غير مسلم، وراجع في ذلك الفتاوى التالية أرقامها: 109917، 52015، 17593، 11669.
وبخصوص الاحتفال بالمولد النبوي راجع الفتوى رقم 76353. وما أحيل عليه فيها.
وبشأن الأشاعرة راجع الفتاوى الآتية أرقامها: 101278، 15695، 16542.
وهنا أمر لا بد من التنبيه إليه أيها الأخ الكريم وهو الحذر من المسارعة في تكفير المسلم، فإن الكفر يحتاج إلى توفر شروط وانتفاء موانع.
والله أعلم.
‰16 شوال 1430