لِعَدَمِ نَقْضِ الْحُكْمِ لِأَنَّ الْبَيِّنَتَيْنِ الْمُتَعَارِضَتَيْنِ كَذَلِكَ لَيْسَتْ إحْدَاهُمَا أَوْلَى مِنْ الْأُخْرَى وَإِنَّمَا الْعِلَّةُ فِي عَدَمِ النَّقْضِ بِالرُّجُوعِ لِأَنَّ قَوْلَهُ الْأَوَّلَ مُكَذِّبٌ لِقَوْلِهِ الثَّانِي، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجَدُ مِثْلُهُ فِي تَعَارُضِ الْبَيِّنَتَيْنِ سَوَاءٌ أَكَانَ مَعَهُمَا تَرْجِيحٌ لِأَحَدِهِمَا أَمْ لَمْ يَكُنْ، وَإِذَا تَبَيَّنَ وَجْهُ عَدَمِ النَّقْضِ فِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ فَفِي الصُّورَةِ الْأُولَى أَوْلَى، وَقَوْلُهُ: وَفِي مَسْأَلَةِ الْمُهَذَّبِ وَجْهٌ حَكَاهُ صَاحِبُ التَّهْذِيبِ وَغَيْرُهُ هُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَقَالَ: إنَّهُ الْأَظْهَرُ وَإِنَّهُ أُشْكِلَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ نَيِّفًا وَعِشْرِينَ سَنَةً وَتَرَدَّدَ جَوَابُهُ فِيهَا لِمَا فِيهَا مِنْ نَقْضِ الِاجْتِهَادِ بِالِاجْتِهَادِ وَاسْتَقَرَّ رَأْيُهُ عَلَى عَدَمِ النَّقْضِ سَوَاءٌ كَانَ قَبْلَ التَّسْلِيمِ أَمْ بَعْدَهُ. وَفِيهَا وَجْهٌ ثَالِثٌ أَنَّهُ إنْ كَانَ قَبْلَ التَّسْلِيمِ لَمْ يُنْقَضْ وَإِنْ كَانَ بَعْدَهُ نُقِضَ لِتَأَكُّدِ الْحُكْمِ بِالتَّسْلِيمِ، وَلَكِنَّ الَّذِي قَالَهُ الْعِرَاقِيُّونَ كُلُّهُمْ، وَصَحَّحَهُ الرَّافِعِيُّ النَّقْضُ مُطْلَقًا، وَهُوَ الْمُخْتَارُ وَالْكَلَامُ عَلَيْهَا قَدْ يَطُولُ. فَإِنْ قُلْت دَعْهُ يَطُولُ فَاذْكُرْهُ هَاهُنَا لِأَنَّ بِهِ تَتَقَرَّرُ الْمَسْأَلَةُ.
قُلْت: نَعَمْ وَهُوَ أَخْصَرُ مِنْ أَفْرَادِهَا لِتَقَدُّمِ بَعْضِ الْكَلَامِ فَأَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ: إنَّمَا قُلْنَا بِالنَّقْضِ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ لِأَنَّ بَيِّنَةَ الدَّاخِلِ عِنْدَنَا مُقَدَّمَةٌ عَلَى بَيِّنَةِ الْخَارِجِ، وَكَانَتْ وَاجِبَةَ التَّقْدِيمِ كَمَا يُقَدَّمُ النَّصُّ عَلَى الِاجْتِهَادِ فَالْحُكْمُ بِبَيِّنَةِ الْخَارِجِ مَعَ وُجُودِهَا وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِهَا الْحَاكِمُ كَالْحُكْمِ بِالِاجْتِهَادِ الْمُخَالِفِ لَهُ يَنْقُضُهُ فَكَذَلِكَ إذَا ظَهَرَتْ لَهُ بَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ بَعْدَ الْحُكْمِ بِبَيِّنَةِ الْخَارِجِ يَنْقُضُهُ، وَالْقَائِلُ بِالتَّفْصِيلِ بَيْنَ مَا قَبْلَ التَّسْلِيمِ وَبَعْدَهُ لَعَلَّ مَأْخَذَهُ أَنْ لَا نَحْكُمَ بِالشَّكِّ وَكَذَا لَا نُسَلِّمَ بِالشَّكِّ وَلَا نَنْقُضَ بِالشَّكِّ. وَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ إذَا عَلِمْنَا أَنَّهُ إنَّمَا حَكَمَ بِبَيِّنَةِ الْخَارِجِ لِعَدَمِ بَيِّنَةِ الدَّاخِلِ فَإِنَّهُ احْتَمَلَ أَنَّهُ حَكَمَ بِهَا ذَهَابًا إلَى تَرْجِيحِ بَيِّنَةِ الْخَارِجِ وَكَانَ مِنْ أَهْلِ التَّرْجِيحِ وَأَشْكَلَ الْحَالُ فَفِي جَوَازِ النَّقْضِ وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا أَنَّهُ لَا يُنْقَضُ بَلْ يُقَرُّ فِي يَدِ الْمَحْكُومِ لَهُ، وَالْخِلَافُ فِي ذَلِكَ مَنْقُولٌ فِي فَرْعٍ حَكَاهُ الْعِرَاقِيُّونَ عَنْ ابْنِ شُرَيْحٍ.
وَنُرِيدُ أَنْ نُنَبِّهَ هُنَا عَلَى فَائِدَةٍ فِي نَقْضِ الْحُكْمِ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْحُكْمَ إنَّمَا يُنْقَضُ لِتَبَيُّنِ خَطَئِهِ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْحَاكِمَ مَنْصُوبٌ لَأَنْ يَحْكُمَ بِحُكْمِ الشَّرْعِ وَأَحْكَامُ الشَّرْعِ مَنُوطَةٌ بِأَسْبَابٍ تَتَعَلَّقُ بِوُجُودِهَا وَوُجُودُهَا يَثْبُتُ عِنْدَ الْحَاكِمِ بِطَرِيقٍ شَرْعِيٍّ فَالْخَطَأُ لَا يَعْدُو هَذِهِ الْمَوَاطِنَ الثَّلَاثَةَ:
(أَحَدَهَا) أَنْ يَكُونَ فِي الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ بِأَنْ يَكُونَ