عُرِفَ إحْدَاثُ شَيْءٍ نُقِضَ بِلَا إشْكَالٍ. وَاَلَّذِي قَالَ فِي الدَّيْرِ يُوجَدُ فِي هَذِهِ الْبِلَادِ مِنْ عَدَمِ النَّقْضِ لِلِاحْتِمَالِ يَقْتَضِي إطْلَاقَهُ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الِاحْتِمَالَيْنِ الْقَوِيِّ وَالضَّعِيفِ، وَغَالِبُ مَنْ يُطَالِعُ كَلَامَهُ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ أَرَادَ بِقَوْلِهِ هَذِهِ الْبِلَادِ كُلَّ مَا أَحْدَثَهُ الْمُسْلِمُونَ كَالْقَاهِرَةِ وَنَحْوِهَا فَتَدْخُلُ فِي ذَلِكَ، وَذَلِكَ أَنَّ مُرَادَ الرَّافِعِيِّ الْبِلَادُ الَّتِي سَمَّاهَا كَبَغْدَادَ وَالْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ.
وَكَذَلِكَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ ذَكَرَ هَذِهِ الْبِلَادَ الثَّلَاثَةَ ثُمَّ قَالَ فَإِنْ قِيلَ: فَمَا تَقُولُونَ فِي هَذِهِ الْبِيَعِ وَالْكَنَائِسِ الَّتِي فِي الْبَصْرَةِ وَالْكُوفَةِ وَدَارِ السَّلَامِ؟ قِيلَ لَمْ نَعْلَمْ أَنَّهَا أُحْدِثَتْ وَلَوْ عَلِمْنَا لَفَعَلْنَاهَا وَاَلَّذِي عِنْدَنَا فِيهَا أَنَّهَا كَانَتْ قَبْلَ فَتْحِ عُمَرَ الْعِرَاقَ حَيْثُ كَانَتْ هَذِهِ الْأَرَاضِي مَزَارِعَ وَقُرًى لِلْمُشْرِكِينَ فَفَتَحَهَا عُمَرُ وَأَقَرَّهَا عَلَى ذَلِكَ ثُمَّ اتَّصَلَ الْبِنَاءُ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ فَبَقِيَتْ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ أَبُو حَامِدٍ مِنْ كَوْنِهَا كَانَتْ مَزَارِعَ وَقُرًى لِلْمُشْرِكِينَ مَعَ أَنَّهُ مِنْ حِينِ اخْتَطَّ الْمُسْلِمُونَ هَذِهِ الْبِلَادَ الثَّلَاثَةَ وَكَلِمَةُ الْإِسْلَامِ فِيهَا غَالِبَةٌ فَغَلَبَ عَلَى الظَّنِّ أَنَّهَا كَانَتْ مَوْجُودَةً قَبْلَ بِنَاءِ الْمُسْلِمِينَ كَالْقَاهِرَةِ.
فَإِنَّ الْمَشْهُورَ الْمَعْرُوفَ أَنَّهَا كَانَتْ بَرِّيَّةً فَلَمَّا تَمَلَّكَ الْمُعِزُّ الْمُعِزِّيُّ الدِّيَارَ الْمِصْرِيَّةَ بَنَاهَا فِي سَنَةِ ثِنْتَيْنِ وَسِتِّينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ فَاحْتِمَالُ وُجُودِ كَنَائِسَ بِهَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ بَعِيدٌ جِدًّا، فَإِنْ نَظَرْنَا إلَى الظَّاهِرِ فَالظَّاهِرُ حُدُوثُهَا بَعْدَ الْبِنَاءِ بِخِلَافِ بَغْدَادَ وَالْبَصْرَةِ وَالْكُوفَةِ.
وَإِنْ نَظَرْنَا إلَى الْأَصْلِ الدَّالِّ عَلَى عَدَمِهَا وَقْتَ بِنَاءِ الْقَاهِرَةِ اسْتِصْحَابَ الْعَدَمِ الْمُحَقَّقِ فِي الْمَاضِي وَالدَّالِّ عَلَى وُجُودِهَا إذْ ذَاكَ اسْتِصْحَابُ وُجُودِهَا عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِصْحَابِ الْمَعْكُوسِ الَّذِي أَحْدَثَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ لَا يَعْرِفُونَهُ وَإِنَّمَا يَعْرِفُونَ الْأَوَّلَ لَكِنَّ الْمُحَقَّقَ مِنْهُ أَعْنِي الْأَوَّلَ مَا عُرِفَ وُجُودُهُ فَيُسْتَصْحَبُ وُجُودُهُ مِنْ الْمَاضِي إلَى الْحَالِ، أَمَّا اسْتِصْحَابُ الْعَدَمِ الْمَاضِي إلَى الْحَالِ مَعَ تَحَقُّقِ الْوُجُودِ فِي الْحَالِ وَالشَّكِّ فِي الْمَاضِي فَمِمَّا يَحْتَاجُ إلَى فِكْرٍ فَإِنْ صَحَّ فَيَتَعَارَضُ الِاسْتِصْحَابَانِ وَيَبْقَى الشَّكُّ فَيُطْلَبُ دَلِيلٌ آخَرُ وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ التَّوَقُّفُ عَنْ الْحُكْمِ بِأَحَدِ الِاسْتِصْحَابَيْنِ حَتَّى يَجِدَ مَا يُعَضِّدُ أَحَدَهُمَا.
وَشَيْخُنَا ابْنُ الرِّفْعَةِ قَامَ فِي هَذِهِ الْكَنَائِسِ الَّتِي فِي الْقَاهِرَةِ وَرُبَّمَا لَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى الْقَاهِرَةِ وَصَنَّفَ كُرَّاسَةً فِي ذَلِكَ وَاعْتَمَدَ فِيهَا عَلَى خَمْسَةِ أَدِلَّةٍ ذَكَرَهَا وَسَمِعْتهَا عَلَيْهِ وَجَنَحَ فِيهَا إلَى التَّمَسُّكِ بِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُهَا قَبْلَ بِنَاءِ الْقَاهِرَةِ،