(فَصْلٌ) عُلِمَ مِمَّا حَصَلَ مِنْ شُرُوطِ عُمَرَ وَغَيْرِهَا مِنْ الْعُقُودِ الَّتِي عَقَدَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَهْلِ نَجْرَانَ وَغَيْرِهَا جَوَازُ عَقْدِ الذِّمَّةِ وَذَلِكَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ مَعْلُومٌ مِنْ الشَّرْعِ بِالضَّرُورَةِ وَالْقُرْآنُ يَدُلُّ لَهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ لِرَغْبَةٍ مِنَّا فِي الْجِزْيَةِ حَتَّى نَحْكِيَ مَنْ يَكْفُرُ بِاَللَّهِ وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ اللَّهِ لِرَجَاءِ إسْلَامِهِمْ كَمَا نَبَّهْنَا عَلَيْهِ، فَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَأَنْ يُهْدِيَ اللَّهُ بِك رَجُلًا وَاحِدًا خَيْرٌ لَك مِنْ حُمْرِ النِّعَمِ» وَعَدَمُ اخْتِلَاطِهِمْ بِالْمُسْلِمِينَ يُبْعِدُهُمْ عَنْ مَعْرِفَةِ مَحَاسِنِ الْإِسْلَامِ أَلَا تَرَى مِنْ الْهِجْرَةِ إلَى زَمَنِ الْحُدَيْبِيَةِ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْإِسْلَامِ إلَّا قَلِيلٌ، وَمِنْ الْحُدَيْبِيَةِ إلَى الْفَتْحِ دَخَلَ فِيهِ نَحْوُ عَشَرَةِ آلَافٍ لِاخْتِلَاطِهِمْ بِهِمْ لِلْهُدْنَةِ الَّتِي حَصَلَتْ بَيْنَهُمْ فَهَذَا هُوَ السَّبَبُ فِي مَشْرُوعِيَّةِ عَقْدِ الذِّمَّةِ.
وَقَالَ أَبُو يَعْلَى: قَدْ ذَكَرَ بَعْضُ أَهْلِ الْبَاطِلِ أَنَّ عَقْدَ الذِّمَّةِ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ تَقْرِيرٌ لِلْكَافِرِ عَلَى كُفْرِهِ وَهَذَا مُمْتَنِعٌ كَمَا يَمْتَنِعُ أَنْ نُقِرَّ الْوَاحِدَ عَلَى مَعْصِيَةٍ مِنْ زِنًا أَوْ غَيْرِهِ. وَهَذَا قَوْلٌ بَاطِلٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ الْإِشَارَةُ إلَى حِكْمَةِ عَقْدِ الذِّمَّةِ وَمَا فِيهِ مِنْ
الْمَصْلَحَةِ
وَرَجَاءِ كَثْرَةِ الْمُسْلِمِينَ وَهِدَايَةِ الْخَلْقِ وَتَفَاوُتِ الرَّبَّا لِأَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَرِدْ بِإِبَاحَتِهِ وَلَا مَصْلَحَةَ لِلْمُكَلَّفِينَ فِيهِ.
(فَصْلٌ) الْمَعْرُوفُ أَنَّ الْكَنَائِسَ مِنْ أَخَسِّ الْمَوَاضِعِ لِمَا فِيهَا مِنْ الْكُفْرِ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَرَأَيْت فِي كِتَابِ أَبِي يَعْلَى الْحَنْبَلِيِّ أَنَّ لِبِيَعِهِمْ وَصَوَامِعِهِمْ حُرْمَةً عَلَى مَعْنَى أَنَّهَا تُصَانُ مِنْ النَّجَاسَاتِ وَتُنَزَّهُ عَنْ الْقَاذُورَاتِ وَالْفَسَادِ لِأَنَّهُمْ يَذْكُرُونَ اللَّهَ تَعَالَى فِيهَا فَتَصِيرُ لَهَا حُرْمَةٌ بِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ} [الحج: 40] الْآيَةَ، وَلَيْسَ حُرْمَتُهَا كَحُرْمَةِ الْمَسَاجِدِ عَنْ مَنْعِ الْجُنُبِ وَالْحَائِضِ وَمَنْعِ الْخُصُومَاتِ وَالتَّشَاجُرِ فِيهَا وَفِي الْوَقْفِ عَلَيْهَا كَمَا يُوقَفُ عَلَى الْمَسَاجِدِ أَمَّا الصَّلَاةُ فَتُكْرَهُ أَنْ يَقْصِدَ بِالصَّلَاةِ فِيهَا وَمِنْ غَيْرِ قَصْدٍ لَكِنْ بِحُضُورِ وَقْتِهَا لَا تُكْرَهُ لِأَنَّهُ حَالُ ضَرُورَةٍ وَاخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ فِي ذَلِكَ ".
رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ كَرَاهِيَةُ الصَّلَاةِ فِيهَا، وَعَنْ عُمَرَ وَأَبِي مُوسَى أَنَّهُمَا صَلَّيَا فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُمَا لَمْ يَقْصِدَا. وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّ لَهَا حُرْمَةً بَعِيدٌ وَلَوْ كَانَ لَهَا حُرْمَةٌ لَمَا هُدِمَتْ