فتاوي السبكي (صفحة 860)

فَلَمَّا أَدْبَرَ الرَّجُلُ نَادَاهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ كَيْفَ قُلْتَ فَأَعَادَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَعَمْ إلَّا الدَّيْنَ كَذَلِكَ قَالَ لِي جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -» . هَكَذَا رَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فَقَالَ فِيهِ «جَاءَ رَجُلٌ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنْ قُتِلْتُ كَفَّرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهِ خَطَايَايَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنْ قُتِلْتَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ صَابِرًا مُحْتَسِبًا مُقْبِلًا غَيْرَ مُدْبِرٍ كَفَّرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ خَطَايَاكَ إلَّا الدَّيْنَ كَذَلِكَ قَالَ لِي جِبْرِيلُ» وَكَذَلِكَ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ وَكَذَلِكَ رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَهُوَ يَدُلُّ بِطَرِيقِ الْمَفْهُومِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ شَرْطٌ يَنْتَفِي الْحُكْمُ عِنْدَ انْتِفَائِهِ بِخِلَافِ رِوَايَةِ مَالِكٍ لَيْسَتْ صَرِيحَةً فِي الِاشْتِرَاطِ حَيْثُ جَعَلَ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِ الصَّحَابِيِّ لَا مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِرِوَايَةِ مَالِكٍ فَلَا إشْكَالَ.

وَإِنْ أَخَذْنَا بِرِوَايَةِ اللَّيْثِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: إنَّ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» مَنْطُوقٌ وَالْمَنْطُوقُ يُقَدَّمُ عَلَى الْمَفْهُومِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ لَا تَعَارُضَ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ الْمَوْعُودَ بِهِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ تَكْفِيرُ الْخَطَايَا وَلَا يَلْزَمُ مِنْ انْتِفَائِهِ انْتِفَاءُ كَوْنِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ.

وَهَذَا أَصَحُّ الْأَجْوِبَةِ وَبِهِ يُعْرَفُ أَنَّ دَرَجَاتِ الشُّهَدَاءِ مُتَفَاوِتَةٌ فَاَلَّذِي يُقْطَعُ بِتَكْفِيرِ الْخَطَايَا لَهُ غَيْرُ الدَّيْنِ هُوَ الَّذِي جَمَعَ هَذِهِ الصِّفَاتِ، وَأَمَّا غَيْرُهُ فَقَدْ يُغْفَرُ لَهُ الْبَعْضُ دُونَ الْبَعْضِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: جَوَابٌ ثَالِثٌ أَنَّ الْمَفْهُومَ يُخَصِّصُ الْعُمُومَ وَلَكِنْ لَا ضَرُورَةَ إلَى هَذَا، وَقَوْلُهُ مُقْبِلًا غَيْرَ مُدْبِرٍ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُقْبِلُ فِي وَقْتٍ وَيُدْبِرُ فِي وَقْتٍ فَهَذَا الْحُكْمُ إنَّمَا يَثْبُتُ لِمَنْ لَمْ يَحْصُلْ مِنْهُ إدْبَارٌ أَصْلًا. نَعَمْ قَدْ يُقَالُ إنَّ هَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ مَنْصُوبَتَانِ عَلَى الْحَالِ فَالْمُعْتَبَرُ هُوَ كَوْنُهُ بِهَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ حَالَ الْقَتْلِ لَا قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ، وَحِينَئِذٍ يَنْبَغِي أَنْ يُفَسَّرُ الْإِقْبَالُ وَالْإِدْبَارُ بِمَا لَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُمَا إمَّا بِأَنْ يُقَالَ: إنَّهُ يُقْبِلُ بِقَلْبِهِ وَبَدَنِهِ وَنِيَّتِهِ لَا يَكُونُ لَهُ الْتِفَاتٌ إلَى مَا سِوَى ذَلِكَ لَا فِي الْحَالِ وَلَا فِي الْمَآلِ أَوْ يَكُونُ تَأْكِيدًا وَهَكَذَا ذَكَرَ الصَّبْرَ مَعَهُمَا.

الظَّاهِرُ أَنَّهُ لِبَيَانِ مَا قُلْنَاهُ مِنْ الْإِقْبَالِ بِالظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ فَإِنَّ الشَّخْصَ قَدْ يَكُونُ مُقْبِلًا عَلَى الْعَدُوِّ بِصُورَتِهِ وَفِي قَصْدِهِ أَنْ يَنْهَزِمَ فَلَا يَكُونُ صَابِرًا وَلَوْ قُتِلَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ فَلَا يَكُونُ شَهِيدًا وَلَا يَكُونُ قَتْلُهُ فِي

طور بواسطة نورين ميديا © 2015