فتاوي السبكي (صفحة 74)

وَ {أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت: 2] حَقِيقَةً فَهُوَ بَدَلُ شَيْءٍ مِنْ شَيْءٍ.

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فَإِنْ قُلْت فَأَيْنَ الْكَلَامُ الدَّالُّ عَلَى الْمَضْمُونِ الَّذِي يَقْتَضِيهِ الْحُسْبَانُ فِي الْآيَةِ.

قُلْت هُوَ فِي قَوْلِهِ {أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت: 2] وَذَلِكَ أَنَّ تَقْدِيرَهُ. أَحَسِبُوا تَرْكَهُمْ غَيْرَ مَفْتُونِينَ لِقَوْلِهِمْ آمَنَّا. فَالتَّرْكُ أَوَّلُ مَفْعُولَيْ حَسِبَ وَلِقَوْلِهِمْ (آمَنَّا) هُوَ الْخَبَرُ فَعَجِبْت مِنْ الزَّمَخْشَرِيِّ لِأَنَّهُ كَثِيرًا مَا يَتَّبِعُ الزَّجَّاجَ فَكَيْفَ خَالَفَهُ هُنَا؟ حَتَّى وَقَفْت عَلَى مَقْصُودِ الْآيَةِ.

وَهُوَ أَنَّ الْمُنْكَرَ حُسْبَانُهُمْ التَّرْكَ لِأَجْلِ قَوْلِهِمْ لَا يَزَالُونَ يُفْتَنُونَ حَتَّى يَعْلَمَ دُخُولَ الْإِيمَانِ فِي قُلُوبِهِمْ وَيَعْلَمَ الصَّادِقَ فِي قَوْلِهِ مِنْ الْكَاذِبِ؛ فَحِينَئِذٍ يُتْرَكُ مِنْ الْفِتْنَةِ وَإِنْ لَمْ يُتْرَكْ مِنْ التَّكَالِيفِ؛ لِقَوْلِهِ {أَيَحْسَبُ الإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى} [القيامة: 36] فَهَذَا التَّرْكُ غَيْرُ ذَاكَ التَّرْكِ وَلَوْ كَانَ الْمَقْصُودُ إنْكَارَ حُسْبَانِ مُطْلَقِ التَّرْكِ لَصَحَّ مَا قَالَهُ الزَّجَّاجُ فَحِينَمَا وَقَفْت عَلَى هَذَا الْمَعْنَى عَلِمْت صِحَّةَ مَا قَصَدَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنْ أَنَّهُ لَا بُدَّ لِلتَّرْكِ الَّذِي أَنْكَرَ حُسْبَانَهُ مِنْ تَتِمَّةٍ، لَكِنَّ التَّتِمَّةَ كَمَا تَكُونُ بِجَعْلِ مَا بَعْدَ التَّرْكِ مَفْعُولًا ثَانِيًا لِتَأَكُّدِهِ كَوْنَ تَغَيُّرِهِ كَمَا سَأُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

وَاَلَّذِي أَرَاهُ أَنْ يَكُونَ (أَنْ يُتْرَكُوا) سَادَّةً مَسَدَ الْمَفْعُولَيْنِ.

وَقَوْلُهُ (أَنْ يَقُولُوا) تَعْلِيلٌ إمَّا لِيُتْرَكُوا مَعْمُولٌ لَهُ، وَإِمَّا لِحَسِبَ مَعْمُولٌ لَهُ. فَإِنْ جَعَلْنَاهُ مَعْمُولًا لِيُتْرَكُوا فَالْمُنْكَرُ حُسْبَانُ التَّرْكِ الْمُعَلَّلِ بِالْقَوْلِ. وَإِنْ جَعَلْنَاهُ مَعْمُولًا لِحَسِبَ فَالْمُنْكَرُ الْحُسْبَانُ الْمُعَلَّلُ بِالْقَوْلِ وَمَعْنَاهُ قَرِيبٌ مِنْ مَعْنَى الْأَوَّلِ.

وَقَوْلُهُ (وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ) حَالٌ إمَّا مِنْ الضَّمِيرِ فِي (يَقُولُوا) سَوَاءٌ جَعَلْنَاهُ عِلَّةً فِي التَّرْكِ أَوْ فِي الْحُسْبَانِ. وَإِمَّا مِنْ الضَّمِيرِ فِي (يُتْرَكُوا) إذَا جَعَلْنَاهُ عِلَّةً فِي التَّرْكِ دُونَ مَا إذَا جَعَلْنَاهُ عِلَّةً فِي الْحُسْبَانِ، لِأَجْلِ الْفَصْلِ بِأَجْنَبِيٍّ.

هَذَا الَّذِي أَرَاهُ فِي تَقْدِيرِ الْآيَةِ وَإِعْرَابِهَا وَمَعْنَاهَا. ثُمَّ نَظَرْت فِي جَعْلِ الْمَفْعُولَيْنِ مُصَرَّحًا بِهِمَا كَمَا اقْتَضَاهُ كَلَامُ الزَّمَخْشَرِيِّ، فَاسْتَحْضَرْت قَوْلَ النُّحَاةِ فِي أَنَّ " أَنْ " وَ " الْفِعْلَ " يَسُدُّ مَسَدَّ الْمَفْعُولَيْنِ عَلَى أَصَحِّ الْمَذْهَبَيْنِ، وَيُقَدَّرُ مَعَهَا الْمَفْعُولُ الثَّانِي مَحْذُوفًا عَلَى الْمَذْهَبِ الْآخَرِ فَالتَّصْرِيحُ بِهِمَا خِلَافُ الْمَذْهَبَيْنِ، ثُمَّ قُلْت فِي نَفْسِي: لَعَلَّ الْمَذْهَبَيْنِ حَيْثُ يَتِمُّ الْكَلَامُ بِأَنْ وَالْفِعْلِ.

أَمَّا حَيْثُ لَا يَتِمُّ فَقَدْ يَكُونُ هُوَ الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ وَيُؤْتَى بَعْدَهُ بِالْمَفْعُولِ الْآخَرِ، لِأَنَّ " أَنْ، وَالْفِعْلَ " كَالْمَصْدَرِ فَكَمَا تَقُولُ: حَسِبْت تَرْكَهُمْ كَقَوْلِهِمْ كَذَلِكَ يَصِحُّ أَنْ تَقُولَ حَسِبْت أَنْ يُتْرَكُوا لِلْقَوْلِ، وَفِي هَذَا فَضْلُ نَظَرٍ، لِأَنَّ صَرِيحَ الْمَصْدَرِ يَدُلُّ عَلَى مَعْنًى تَصَوُّرِيٍّ لَا يَسْتَقِلُّ بِالْإِفَادَةِ، " وَأَنْ وَالْفِعْلُ " يَدُلُّ عَلَى مَعْنًى تَصْدِيقِيٍّ مُسْتَقِلٍّ بِالْإِفَادَةِ. وَمِنْ ثَمَّ جَازَ الِاقْتِصَارُ عَلَيْهَا وَسَدَّتْ مَسَدَّ الْمَفْعُولَيْنِ. فَهَلْ يَقَعُ " أَنْ وَالْفِعْلُ " مَقْصُودًا بِهِ التَّصَوُّرِيُّ فَقَطْ

طور بواسطة نورين ميديا © 2015