الْمَعَانِيَ وَالْأَسْرَارَ كَيْفَ غَابَتْ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ وَاحْتَجَبَتْ حَتَّى كَأَنَّهَا تَحْتَ الْأَسْتَارِ حَتَّى ادَّعَى بَعْضُهُمْ أَنَّ ذَلِكَ تَأْكِيدٌ وَادَّعَى بَعْضُهُمْ غَيْرَ ذَلِكَ وَتَرَكَ كَثِيرٌ التَّعَرُّضَ لِذَلِكَ رَأْسًا وَبَلَغَنِي عَنْ شَخْصٍ أَنَّهُ قَالَ: اجْتِمَاعُ الضَّمِيرَيْنِ فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ مُسْتَثْقَلٌ فَلِذَلِكَ لَمْ يَقُلْ " اسْتَطْعَمَاهُمْ " هَذَا شَيْءٌ لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ مِنْ النُّحَاةِ وَلَا لَهُ دَلِيلٌ وَالْقُرْآنُ وَالْكَلَامُ الْفَصِيحُ مُمْتَلِئٌ بِخِلَافِهِ.
وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي بَقِيَّةِ الْآيَةِ {يُضَيِّفُوهُمَا} [الكهف: 77] وَقَالَ تَعَالَى {فَخَانَتَاهُمَا} [التحريم: 10] وَقَالَ تَعَالَى (حَتَّى إذَا جَاءَنَا) فِي قِرَاءَةِ الْحَرَمِيِّينَ وَابْنِ عَامِرٍ وَأَلْفُ مَوْضِعٍ هَكَذَا.
وَهَذَا الْقَوْلُ لَيْسَ بِشَيْءٍ. وَلَيْسَ هُوَ قَوْلًا حَتَّى يُحْكَى وَإِنَّمَا لَمَّا قِيلَ نَبَّهْت عَلَى رَدِّهِ وَمِنْ تَمَامِ الْكَلَامِ فِي ذَلِكَ أَنَّ (اسْتَطْعَمَا) إذَا جُعِلَ جَوَابًا فَهُوَ مُتَأَخِّرٌ عَنْ الْإِتْيَانِ؛ وَإِذَا جُعِلَ صِفَةً احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ اُتُّفِقَ قَبْلَ الْإِتْيَانِ وَذُكِرَ تَعْرِيفًا وَتَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَحْمِلْهُمَا عَلَى عَدَمِ الْإِتْيَانِ لِقَصْدِ الْخَيْرِ، وَقَوْلُهُ (فَوَجَدَا) مَعْطُوفٌ عَلَى (أَتَيَا) .
وَكَتَبْته فِي لَيْلَةِ الثُّلَاثَاءِ ثَالِثِ ذِي الْقَعْدَةِ سَنَةَ خَمْسِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ بِدِمَشْقَ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ اسْتَحْضَرْت آيَةً أُخْرَى وَهِيَ قَوْله تَعَالَى {إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ} [العنكبوت: 31] وَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ جُمْلَتَيْنِ وَوَضْعُ الظَّاهِرِ مَوْضِعَ الْمُضْمِرِ إنَّمَا يَحْتَاجُ إلَى الِاعْتِذَارِ عَنْهُ إذَا كَانَ فِي جُمْلَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلَكِنْ نَسْأَلُ عَنْ سَبَبِ الْإِظْهَارِ هُنَا وَالْإِضْمَارِ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ {إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [القصص: 32] وَخَطَرَ لِي فِي الْجَوَابِ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْمُرَادُ فِي مَدَائِنِ لُوطٍ إهْلَاكَ الْقُرَى صَرَّحَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ بِذِكْرِ الْقَرْيَةِ الَّتِي يَحِلُّ بِهَا الْهَلَاكُ، كَأَنَّهَا اكْتَسَبَتْ الظُّلْمَ وَاسْتَحَقَّتْ الْإِهْلَاكَ مَعَهُمْ، وَلَمَّا كَانَ الْمُرَادُ فِي قَوْمِ فِرْعَوْنَ إهْلَاكَهُمْ بِصِفَاتِهِمْ وَلَمْ يُهْلِكْ بَلَدَهُمْ أَتَى بِالضَّمِيرِ الْعَائِدِ عَلَى ذَوَاتِهِمْ مِنْ حَيْثُ هِيَ لَا تَخْتَصُّ بِمَكَانٍ وَلَا يَدْخُلُ مَعَهَا مَكَانٌ.
وَقَدْ قُلْت:
لِأَسْرَارِ آيَاتِ الْكِتَابِ مَعَانِي ... تَدِقُّ فَلَا تَبْدُو لِكُلِّ مُعَانِ
وَفِيهَا لِمُرْتَاضٍ لَبِيبٍ عَجَائِبُ ... سَنَا بَرْقِهَا يَعْنُو لَهُ الْقَمَرَانِ
إذَا بَارِقٌ مِنْهَا لِقَلْبِي قَدْ بَدَا ... هَمَمْت قَرِيرَ الْعَيْنِ بِالطَّيَرَانِ
سُرُورًا وَإِبْهَاجًا وَنَيْلًا إلَى الْعُلَى ... كَأَنَّ عَلَى هَامِ السِّمَاكِ مَكَانِي
وَهَاتِيك مِنْهَا قَدْ أَتَحْتُك مَا تَرَى ... فَشُكْرًا لِمَنْ أَوْلَى بَدِيعَ بَيَانِي
وَإِنَّ جَنَانِي فِي تَمَوُّجِ أَبْحُرٍ ... مِنْ الْعِلْمِ فِي قَلَبِي يَمُدُّ لِسَانِي
وَكَمْ مِنْ كِتَابٍ فِي جُمَادَى مُحَرَّرٍ ... إلَى أَنْ أَرَى أَهْلًا ذَكَّى جَنَانِي
فَيَصْطَادُ مِنِّي مَا يُطِيقُ اقْتِنَاصَهُ ... وَلَيْسَ لَهُ بِالشَّارِدَاتِ يَدَانِ
مُنَايَ سَلِيمُ الذِّهْنِ رِيضٌ ارْتَوَى ... فَكُلُّ عُلُومِ الْخَلْقِ ذُو لَمَعَانٍ