فتاوي السبكي (صفحة 375)

مِيرَاثَ فَعَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ لَا يَكُونُ لَهُمْ.

فَإِنْ قُلْت: فَقَدْ قَالَ الرَّافِعِيُّ: هَلْ يَصِحُّ أَنْ يُلْزِمَ الْقَاضِي الْمَيِّتَ بِمُوجِبِ إقْرَارِهِ فِي حَيَاتِهِ فِيهِ وَجْهَانِ. قُلْت: يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ هَذَا عَلَى أَنَّهُ هَلْ يَكُونُ الْحُكْمُ عَلَى الْمَيِّتِ، أَوْ عَلَى الْوَرَثَةِ وَفِيهِ مَا فِيهِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ لَا تَظْهَرُ فَائِدَةٌ لِهَذَا الْخِلَافِ، أَمَّا وُجُوبُ إخْرَاجِ مَا أَقَرَّ بِهِ مِنْ تَرِكَتِهِ مِنْ عَيْنٍ أَوْ دَيْنٍ فَكَيْفَ يَتَأَتَّى فِيهِ خِلَافٌ وقَوْله تَعَالَى {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 11] يَشْمَلُ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ، وَالدَّيْنَ الثَّابِتَ بِالْإِقْرَارِ، وَلَا أَعْتَقِدُ أَنَّ أَحَدًا يُخَالِفُ ذَلِكَ، وَلَوْ سَلَّمْنَا ذَلِكَ فَذَلِكَ فِي إقْرَارٍ وَلَمْ يَتَّصِلْ بِحُكْمٍ وَلَا ثُبُوتٍ، أَمَّا إذَا ثَبَتَ الْإِقْرَارُ فِي حَيَاتِهِ، وَحَكَمَ بِهِ ثُمَّ مَاتَ فَلَا يَشْمَلُهُ كَلَامُ الرَّافِعِيِّ مِنْ جِهَةِ أَنَّا مَا أَلْزَمْنَاهُ بِمُجَرَّدِ إقْرَارِهِ بَلْ بِحُكْمِنَا السَّابِقِ، وَلَا حَاجَةَ بِنَا إلَى هَذَا فَإِنَّا نَقْطَعُ بِوُجُوبِ إخْرَاجِ مَا أَقَرَّ بِهِ الْمَيِّتُ فِي حَيَاتِهِ مِنْ تَرِكَتِهِ وَالظَّاهِرُ أَنَّ مُرَادَ الرَّافِعِيِّ إذَا ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ فَأَقَرَّ ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ الْحُكْمِ عَلَيْهِ، أَوْ يَحْتَاجُ إلَى إنْشَاءِ دَعْوَى عَلَى الْوَارِثِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هَذَا مَحَلُّ الْوَجْهَيْنِ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ جِهَةِ لَفْظِ الْمُوجَبِ، فَإِنْ قُلْت: الْحُكْمُ بِالْمُوجَبِ لَا يَصِحُّ لِإِبْهَامِهِ، وَحُكْمُ الْحَاكِمِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا، وَقَدْ صَرَّحَ الْهَرَوِيُّ وَالرَّافِعِيُّ بِأَنَّهُ لَا بُدَّ فِي الْحُكْمِ مِنْ تَعْيِينِ مَا يَحْكُمُ بِهِ، وَمَنْ يَحْكُمُ لَهُ.

وَقَالَا مَعَ ذَلِكَ إنَّهُ قَدْ يُبْتَلَى بِظَالِمٍ لَا بُدَّ مِنْ مُلَايَنَتِهِ فَيَكْتُبُ فِيمَا إذَا قَامَتْ عِنْدَهُ بَيِّنَةٌ دَاخِلٌ، وَخَارِجٌ مَثَلًا حَكَمْت فِيمَا هُوَ قَضِيَّةُ الشَّرْعِ فِي مُعَارَضَةِ بَيِّنَةِ فُلَانٍ الدَّاخِلِ وَفُلَانٍ الْخَارِجِ، وَقَرَرْت الْمَحْكُومَ بِهِ فِي يَدِ الْمَحْكُومِ لَهُ وَسَلَّطَتْهُ، وَمَكَّنْته مِنْ التَّصَرُّفِ فِيهِ فَيُخَيَّلُ إلَى الدَّاخِلِ أَنَّهُ حَكَمَ لَهُ، وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ لَمْ يَحْكُمْ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا.

قُلْت: الصُّورَةُ الَّتِي ذَكَرَهَا الْهَرَوِيُّ وَالرَّافِعِيُّ فِيهَا إبْهَامٌ كَمَا قَالَا وَرَخَّصَ لِلْقَاضِي فِعْلَهَا لِلضَّرُورَةِ، وَالْمُوجَبُ لَا إبْهَامَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ مُقْتَضَى اللَّفْظِ، وَهُوَ أَمْرٌ مَعْلُومٌ.

وَاعْلَمْ أَنَّ مُقْتَضَى اللَّفْظِ وَمَدْلُولَهُ وَمُوجَبَهُ أَلْفَاظٌ مُتَقَارِبَةٌ، وَبَيْنَهَا تَفَاوُتٌ فَالْمَدْلُولُ مَا يُفْهَمُ مِنْ اللَّفْظِ، وَالْمُقْتَضَى، وَالْمُوجَبُ مَا يُفْهَمُ مِنْهُ، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يُفْهَمْ مِنْهُ، مِثَالُهُ: الْبَيْعُ مَدْلُولُ نَقْلِ الْمِلْكِ بِعِوَضٍ، وَمُقْتَضَاهُ ذَلِكَ، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ انْتِقَالِ الْمِلْكِ وَثُبُوتِ الْخِيَارِ وَحِلِّ الِانْتِفَاعِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْأَحْكَامِ الَّتِي اقْتَضَاهَا الْبَيْعُ، وَالْمُوجَبُ كَالْمُقْتَضَى مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ، وَكَذَلِكَ الْوَقْفُ مَدْلُولُهُ إنْشَاءُ الْوَاقِفِ الْوَقْفَ وَمُقْتَضَاهُ وَمُوجِبُهُ صَيْرُورَةُ ذَلِكَ وَقْفًا وَاسْتِحْقَاقُ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ مَنَافِعَهُ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَحْكَامِ الثَّابِتَةِ لَهُ، وَكَذَلِكَ قَوْلُ الزَّوْجِ: أَنْتِ طَالِقٌ مَدْلُولُهُ إيقَاعُ الْفُرْقَةِ وَمُقْتَضَاهُ وَمُوجَبُهُ وُقُوعُهَا وَحُرْمَةُ الِاسْتِمْتَاعِ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْأَحْكَامِ، ثُمَّ الْمَدْلُولُ، وَالْمُوجَبُ قَدْ يَكُونُ بِحَسَبِ اللُّغَةِ، وَقَدْ يَكُونُ بِحَسَبِ الشَّرْعِ: مِثَالُهُ بَاعَ دِرْهَمًا بِدِرْهَمَيْنِ فَمَدْلُولُ هَذَا اللَّفْظِ نَقْلُ هَذَا الْمِلْكِ وَمُوجَبُهُ

طور بواسطة نورين ميديا © 2015