فتاوي السبكي (صفحة 369)

وَاَلَّذِي فِي كِتَابِ أَبِي سَعِيدٍ بِمَضْمُونِهِ لَا بِمُوجَبِهِ.

(الثَّانِي) : وَهُوَ الْعُمْدَةُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: بِمُوجَبِهِ كَمَا هِيَ عِبَارَةُ الرَّافِعِيِّ، أَوْ بِمَضْمُونِهِ عَلَى عِبَارَةِ الْأَصْلِ تَعُودُ عَلَى الْكِتَابِ، وَذَلِكَ وَاضِحٌ لَا خَفَاءَ فِيهِ، وَمَضْمُونُ الْكِتَابِ وَمُوجَبُهُ صُدُورُ مَا تَضَمَّنَهُ مِنْ إقْرَارٍ كَمَا فِي مَسْأَلَتِنَا أَوْ تَصَرُّفٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَقَبُولُهُ، وَإِلْزَامُ الْعَمَلِ بِهِ هُوَ أَنَّهُ لَيْسَ بِزُورٍ، وَإِرَادَةُ هَذَا الْمَعْنَى مُحْتَمَلَةٌ، وَهُوَ تَثْبِيتُ الْحُجَّةِ وَإِلْزَامُهَا قَبُولَهَا وَعَدَمُ رَدِّهَا ثُمَّ يَتَوَقَّفُ الْحُكْمُ بِهَا عَلَى أُمُورٍ أُخَرَ مِنْهَا عَدَمُ مُعَارَضَةِ بَيِّنَةٍ أُخْرَى كَمَا صَرَّحَ بِهِ أَبُو سَعْدٍ الْهَرَوِيُّ فِي بَقِيَّةِ كَلَامِهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ قَالَ الرَّافِعِيُّ: إنَّ الصَّوَابَ أَنَّهُ لَيْسَ بِحُكْمٍ، وَنَحْنُ نُوَافِقُهُ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ عَلَى ذَلِكَ أَمَّا مَسْأَلَتُنَا هَذِهِ، فَالْحُكْمُ بِمُوجَبِ الْإِقْرَارِ الَّذِي هُوَ مَضْمُونُ الْكِتَابِ، وَلَمْ يَتَكَلَّمْ الرَّافِعِيُّ، وَلَا أَبُو سَعِيدٍ الْهَرَوِيُّ فِيهِ بِشَيْءٍ فِي هَذَا الْمَحِلِّ فَزَالَ التَّعَلُّقُ بِكَلَامِهِمَا.

(الثَّالِثُ) : أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْكَلَامِ الْمَذْكُورِ لَا فِي عِبَارَةِ الرَّافِعِيِّ، وَلَا الْهَرَوِيِّ لَفْظَةُ الْحُكْمِ بَلْ الْإِلْزَامُ، وَالْإِلْزَامُ وَإِنْ عَدَّهُ ابْنُ الصَّبَّاغِ ثُمَّ الرَّافِعِيُّ مِنْ أَلْفَاظِ الْحُكْمِ لَكِنَّ ذَلِكَ فِي الْإِلْزَامِ بِالْمُدَّعَى بِهِ، أَمَّا إلْزَامُ الْعَمَلِ بِالْمُوجَبِ فَلَمْ يَقَعْ فِي كَلَامِهِمْ إلَّا هُنَا، وَكَلَامُنَا فِي الْحُكْمِ بِالْمُوجَبِ، وَالْمُرَادِفُ لَهُ الْإِلْزَامُ بِالْمُوجَبِ، وَالْوَاقِعُ فِي كَلَامِ الرَّافِعِيِّ إلْزَامُ الْعَمَلِ بِالْمُوجَبِ، وَقَدْ يَتَوَقَّفُ فِي مُرَادَفَتِهِ لِلْأَوَّلَيْنِ، وَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُصَرِّحَ الْحَاكِمُ بِلَفْظِ الْحُكْمِ، وَيَقُولُ: إنَّهُ مَا حَكَمَ، وَلَوْ صَحَّ ذَلِكَ وَأَنَّهُ لَيْسَ بِحُكْمٍ كَانَ اسْتِعْمَالُ لَفْظِ الْحُكْمِ فِيهِ غَيْرَ جَائِزٍ فَاسْتِعْمَالُهُ حِينَئِذٍ إمَّا تَلْبِيسٌ وَإِمَّا جَهْلٌ، وَكِلَاهُمَا قَادِحٌ فِي الْحَاكِمِ.

(الرَّابِعُ) : أَنَّهُ لَيْسَ فِي كَلَامِ الْهَرَوِيِّ، وَلَا الرَّافِعِيِّ لَفْظَةُ الثُّبُوتِ فَلِذَلِكَ احْتَمَلَ إلْزَامَ الْعَمَلِ عَلَيْهَا، وَفِي مَسْأَلَتِنَا جَمَعَ بَيْنَ لَفْظَتَيْ الثُّبُوتِ، وَالْحُكْمِ، وَلَا يُمْكِنُ حَمْلُ الْحُكْمِ عَلَى الثُّبُوتِ حَذَرًا مِنْ التَّأْكِيدِ، وَقَوْلُهُ: قَبِلْته قَبُولَ مِثْلِهِ لَيْسَ صَرِيحًا فِي الثُّبُوتِ. (الْخَامِسُ) : أَنَّ أَبَا سَعْدٍ الْهَرَوِيَّ الَّذِي قَالَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ قَالَ: إنَّمَا رَجَعْتُ عَنْ الْقَوْلِ لِأَنِّي رَأَيْت الْحُكَّامَ مُقَلِّدِينَ يَثْبُتُونَ عَلَى عَادَةِ الْقُضَاةِ السَّابِقَةِ مِنْ غَيْرِ أَرْكَانٍ تُبَصِّرُ الْحَقَائِقَ لَمْ يَرْجِعْ عَنْ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، وَنَحْنُ إنَّمَا نَتَكَلَّمُ فِي قَاضٍ لَهُ تَبَصُّرٌ بِالْحَقَائِقِ عَالِمٍ صَالِحٍ لِلْقَضَاءِ، وَقَدْ جَرَى الْعُرْفُ فِي بِلَادِنَا بِاسْتِعْمَالِ هَذِهِ اللَّفْظَةِ أَعْنِي الْحُكْمَ بِالْمُوجَبِ، وَيَرَوْنَهَا حُكْمًا وَيَكْتَفُونَ بِهَا، فَمَنْ قَالَ: إنَّهَا لَيْسَتْ بِحُكْمٍ كَانَ مُخَالِفًا لِلْمَفْهُومِ مِنْهَا، وَشُيُوعُهَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَاكِمَ أَرَادَ بِهَا الْحُكْمَ كَمَا هُوَ الْمَفْهُومُ مِنْهَا فِي الْعُرْفِ.

(السَّادِسُ) : أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ الَّتِي عَرَفْتهَا حَكَمَ فِيهَا حَاكِمٌ جَيِّدٌ، وَنَفَّذَهُ حَاكِمٌ آخَرُ جَيِّدٌ فِي سُنَّتِهِ، وَكَانَا هُمَا وَشُهُودَ الْأَصْلِ فِي بَلْدَةٍ وَاحِدَةٍ، فَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ اللَّفْظَةُ لَا تُفِيدُ شَيْئًا لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهَا كَانَ ذَلِكَ قَدْحًا فِيهِمَا، وَإِنْ حُمِلَتْ

طور بواسطة نورين ميديا © 2015