وَأُخْرَى أَنَّهُ مَاتَ نَصْرَانِيًّا تُقَدَّمُ بَيِّنَةُ الْإِسْلَامِ عَلَى بَيِّنَةِ النَّصْرَانِيَّةِ، وَإِنْ كَانَ فِي بَيِّنَةِ النَّصْرَانِيَّةِ جَرْحٌ، وَبَيِّنَةُ الْجَرْحِ إنَّمَا تُقَدَّمُ عَلَى بَيِّنَةِ التَّعْدِيلِ حَيْثُ اسْتَوَيَا أَمَّا لَوْ ثَبَتَ الْجَرْحُ ثُمَّ قَامَتْ الْبَيِّنَتَانِ فَإِنَّ بَيِّنَةَ التَّعْدِيلِ تُقَدَّمُ هَذَا الَّذِي ظَهَرَ لِي، وَلَمْ يُوَافِقْ عَلَيْهِ أَحَدٌ.
(الْجَوَابُ) أَمَّا كَوْنُ بَيِّنَةِ السَّفَهِ لَا تُقْبَلُ إلَّا مُفَسَّرَةً فَيَنْبَغِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ النَّاسَ مُخْتَلِفُونَ فِي أَسْبَابِ السَّفَهِ، وَالرُّشْدِ فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَرَى صَرْفَ الْمَالِ إلَى الْأَطْعِمَةِ النَّفِيسَةِ الَّتِي لَا تَلِيقُ بِحَالِهِ سَفَهًا، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَيْسَ بِسَفَهٍ، وَلَكِنَّ صَرْفَهَا فِي الْحَرَامِ سَفَهٌ، وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَرَى أَنَّ الصَّبِيَّ إذَا بَلَغَ، وَهُوَ يُفَرِّطُ فِي إنْفَاقِ الْمَالِ فِي وُجُوهِ الْخَيْرِ مِنْ الصَّدَقَاتِ، وَنَحْوِهَا يَكُونُ سَفِيهًا بِذَلِكَ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَكُونُ بِذَلِكَ سَفِيهًا، وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَرَى أَنَّ الرُّشْدَ هُوَ الصَّلَاحُ فِي الْمَالِ فَقَطْ، وَعِنْدَنَا لَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ الصَّلَاحِ فِي الدِّينِ، وَالْمَالِ، وَخَالَفَ فِيهِ بَعْضُ أَصْحَابِنَا، وَجَمَاعَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ.
وَمِنْ السَّفَهِ مَا يَكُونُ طَارِئًا، وَمِنْهُ مَا يَكُونُ مُسْتَدَامًا، وَالشَّاهِدُ قَدْ يَكُونُ عَامِّيًّا، وَقَدْ يَكُونُ فَقِيهًا، وَيَرَى سَفَهًا مَا لَيْسَ بِسَفَهٍ عِنْدَ الْقَاضِي، وَكَذَلِكَ الرُّشْدُ فَكَيْفَ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ مُطْلَقَةً فَيَنْبَغِي أَنْ لَا تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ بِالسَّفَهِ حَتَّى يَبِينَ سَبَبُهُ، وَلَا بِالرُّشْدِ حَتَّى يَبِينَ أَنَّهُ مُصْلِحٌ لِدِينِهِ، وَمَالِهِ كَمَا عَادَةُ الْمَحَاضِرِ الَّتِي تُكْتَبُ بِالرُّشْدِ، وَقَدْ قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إذَا أَقَرَّ الرَّاهِنُ، وَالْمُرْتَهِنُ عِنْدَ شَاهِدَيْنِ أَنْ يُؤَدِّيَا مَا سَمِعَاهُ مَشْرُوحًا فَلَوْ أَرَادَا أَنْ لَا يَشْرَحَا بَلْ شَهِدَا أَنَّهُ رَهْنٌ بِأَلْفَيْنِ، فَإِنْ لَمْ يَكُونَا مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ لَمْ يَجُزْ، وَكَذَا إنْ كَانَا مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ فِي الْأَصَحِّ؛ لِأَنَّ الشَّاهِدَ نَاقِلٌ، وَالِاجْتِهَادَ إلَى الْحَاكِمِ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي الدَّمِ: الَّذِي تَلَقَّيْته مِنْ كَلَامِ الْمَرَاوِزَةِ، وَفَهِمْته مِنْ مَدَارِجِ مُبَاحَثَاتِهِمْ الْمَذْهَبِيَّةِ أَنَّ الشَّاهِدَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُرَتِّبَ الْأَحْكَامَ عَلَى أَسْبَابِهَا بَلْ وَظِيفَتُهُ نَقْلُ مَا سَمِعَهُ، أَوْ شَاهَدَهُ فَهُوَ سَفِيرٌ إلَى الْحَاكِمِ فِيمَا يَنْقُلُهُ مِنْ قَوْلٍ سَمِعَهُ، أَوْ فِعْلٍ رَآهُ، وَقَدْ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الشَّهَادَةِ بِالرِّدَّةِ هَلْ تُقْبَلُ مُطْلَقَةً، أَوْ لَا بُدَّ مِنْ الْبَيَانِ، وَالْمُخْتَارُ عِنْدِي أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الْبَيَانِ وِفَاقًا لِلْغَزَالِيِّ لِاخْتِلَافِ الْمَذَاهِبِ فِي التَّكْفِيرِ، وَلِجَهْلِ كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ، وَإِنْ كَانَ الرَّافِعِيُّ رَجَّحَ قَبُولَهَا مُطْلَقَةً لِظُهُورِ أَسْبَابِ الْكُفْرِ، وَهَذِهِ الْعِلَّةُ لَا يَأْتِي مِثْلُهَا فِي السَّفَهِ، وَالرُّشْدِ فَيَتَرَجَّحُ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الْبَيَانِ كَالْجَرْحِ، وَلَيْسَ الرُّشْدُ كَالتَّعْدِيلِ حَتَّى يُقْبَلَ مُطْلَقًا نَعَمْ هُوَ مِثْلُهُ فِي الِاكْتِفَاءِ فِي الْإِطْلَاقِ فِي صَلَاحِ الدَّيْنِ، وَالْإِطْلَاقِ فِي صَلَاحِ الْمَالِ لِعُسْرِ التَّفْصِيلِ فِيهِ؛ أَمَّا إطْلَاقُ الرُّشْدِ مِنْ غَيْرِ بَيَانِ الدَّيْنِ، وَالْمَالِ فَلَا يَكْفِي، أَمَّا قَوْلُك: وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يُبَيِّنَ السَّبَبَ، فَإِنْ كَانَ سَبَبًا سَابِقًا عَلَى وَقْتِ شَهَادَةِ الرُّشْدِ فَلَا تَعَارُضَ، وَتَقَدُّمُ بَيِّنَةِ الرُّشْدِ فِيهِ نَظَرٌ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ