يَقْطَعُ بِأَنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْ مِنْهُ طَلَاقٌ كَمَا لَوْ تَزَوَّجَ وَقَالَ ذَلِكَ عَقِبَ الْعَقْدِ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى الْإِقْرَارِ وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ إنْشَاءٌ وَلَكِنَّهُ لَمْ يُصَحِّحْهُ مِنْ جِهَةِ النَّحْوِ أَعْنِي تَعْلِيقَهُ فَيَبْقَى إنْشَاءً بِلَا تَعْلِيقٍ فَيَقَعُ الْآنَ وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا مُرَادُ الْكِنْدِيِّ، لَمْ يَصِحَّ تَعْلِيلُهُ بِمَا قَالَهُ مِنْ أَنَّهُ مَاضٍ وَجَبَ وَثَبَتَ، وَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ تَعْلِيقُهُ.
فَإِنَّ هَذَا التَّعْلِيلَ يَرْجِعُ إلَى الْمَعْنَى لَا إلَى الصِّنَاعَةِ، وَكَيْفَ يُوقَعُ عَلَى شَخْصٍ لَمْ يَقْصِدْهُ وَلَا دَلَّ عَلَيْهِ لَفْظُ الْخِطَابِ بِحَسَبِ صِنَاعَةِ النَّحْوِ وَلَا يُنْجَزُ عَلَيْهِ الطَّلَاقُ الْآنَ بَلْ يُوقِعُهُ إذَا دَخَلَتْ الدَّارَ اعْتِبَارًا بِقَصْدِهِ وَمَا دَلَّ عَلَيْهِ لَفْظُهُ، وَإِنْ كَانَ خَطَأً مِنْ جِهَةِ النَّحْوِ فَهَذَا الَّذِي نَحْنُ فِيهِ أَوْلَى لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ لَيْسَ خَطَأً مِنْ جِهَةِ النَّحْوِ بَلْ صَوَابًا وَإِنَّمَا وَقَعَ الِالْتِبَاسُ عَلَى الْكِنْدِيِّ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْفِعْلَ الْمَاضِيَ تَارَةً لَا يَصِحُّ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْإِنْشَاءُ بِوَجْهٍ بَلْ يَكُونُ خَبَرًا مُعَيَّنًا فَهَذَا لَا شَكَّ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ تَعْلِيقُهُ، كَقَوْلِهِ: قُمْتُ إنْ قُمْتَ إذَا قَصَدَ بِالْأَوَّلِ الْإِخْبَارَ بِالْقِيَامِ، فَإِنَّهُ يَسْتَحِيلُ تَعْلِيقُهُ بَعْدَ ذَلِكَ وَتَارَةً يَصِحُّ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْإِنْشَاءُ كَقَوْلِهِ طَلَّقْتُك فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ مَوْضُوعًا لِلْخَبَرِ.
فَقَدْ يُرَادُ بِهِ الْإِنْشَاءُ بَلْ ذَكَرَهُ الْفُقَهَاءُ فِي صَرَائِحِ الطَّلَاقِ كَقَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ. وَمُقْتَضَى ذَلِكَ إنْ طَلَّقْتُك صَرِيحٌ فِي الْإِنْشَاءِ وَيَكُونُ قَدْ نَقَلَ مِنْ الْخَبَرِ إلَى الْإِنْشَاءِ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمَا الْمَانِعُ مِنْ تَعْلِيقِهِ، بَلْ أَقُولُ: إنْ قُمْت وَظَاهِرُهُ إنْ كَانَ الْخَبَرُ وَيَصِحُّ تَعْلِيقُهُ أَيْضًا إذَا لَمْ يُرِدْ بِهِ الْخَبَرَ الْمَاضِيَ الثَّابِتَ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ} [الأعراف: 89] لِأَنَّ الِافْتِرَاءَ مُنْتَفٍ قَطْعًا غَيْرَ مُرَادٍ بَلْ الْمُرَادُ التَّعْلِيقُ وَجَعْلُ الْعَوْدِ كَالْمُسْتَحِيلِ لِاسْتِلْزَامِهِ هَذَا الْمَحْذُورَ، وَهُوَ الِافْتِرَاءُ الَّذِي يَشُكُّ فِي عَدَمِهِ، فَصَارَ الْفِعْلُ الْمَاضِي عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
قِسْمٌ يُرَادُ بِهِ الْخَبَرُ الْمَاضِي الْمُحَقَّقُ، فَلَا تَعْلِيقَ فِيهِ أَصْلًا وَلَا يُقَالُ لَا يَصِحُّ تَعْلِيقُهُ، لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَعْلَمُ أَنَّ مَا وَقَعَ لَا يُعَلَّقُ؛ وَقِسْمٌ يَظْهَرُ فِيهِ الْإِنْشَاءُ كَطَلَّقْت فَهَذَا الْأَظْهَرُ فِيهِ جَانِبُ قَبُولِ التَّعْلِيقِ حَتَّى يَصْرِفَهُ صَارِفٌ. وَقِسْمٌ عَكْسُهُ وَالْحُكْمُ فِيهِ بِعَكْسِهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ.
وَقَوْلُ الْفَارِسِيِّ وَالْمَازِنِيِّ وَغَيْرِهِمَا مِنْ أَئِمَّةِ النُّحَاةِ مَحْمُولٌ عَلَى الْقِسْمِ الْأَوَّلِ أَوْ عَلَى هَذَا الْقِسْمِ إذَا أُرِيدَ أَصْلُ وَضْعِهِ