وَحَكَمَ حَاسِبٌ بِعَدَمِ الْإِمْكَانِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ احْتَمَلَ أَنْ يُقَالَ بِعَدَمِ تَعَلُّقِ الْحُكْمِ وَاحْتَمَلَ أَنْ يُقَالَ إنَّمَا دُونَ مَسَافَةِ الْقَصْرِ كَالْبَلَدِ الْوَاحِدِ فَيَتَعَلَّقُ بِهِ الْحُكْمُ. وَمَسْأَلَتُنَا هَذِهِ فِي قُطْرٍ عَظِيمٍ وَأَقَالِيمَ دَلَّ الْحِسَابُ عَلَى عَدَمِ إمْكَانِ الرُّؤْيَةِ فِيهَا فَشَهِدَ اثْنَانِ أَوْ ثَلَاثَةٌ عَلَى رُؤْيَتِهِ مَعَ احْتِمَالِ قَوْلِهِمَا بِجَمِيعِ مَا قَدَّمْنَاهُ فَلَا أَرَى قَبُولَ هَذِهِ الْبَيِّنَةِ أَصْلًا وَلَا يَجُوزُ الْحُكْمُ بِهَا.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ مُرَادُنَا بِالْقَطْعِ هَهُنَا الَّذِي يَحْصُلُ بِالْبُرْهَانِ الَّذِي مُقَدِّمَاتُهُ كُلُّهَا عَقْلِيَّةٌ فَإِنَّ الْحَالَ هُنَا لَيْسَ كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا هُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَرْصَادٍ وَتَجَارِبَ طَوِيلَةٍ وَتَسْيِيرِ مَنَازِلِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَمَعْرِفَةِ حُصُولِ الضَّوْءِ الَّذِي فِيهِ بِحَيْثُ يَتَمَكَّنُ النَّاسُ مِنْ رُؤْيَتِهِ وَالنَّاسُ يَخْتَلِفُونَ فِي حِدَّةِ الْبَصَرِ فَتَارَةً يَحْصُلُ الْقَطْعُ إمَّا بِإِمْكَانِ الرُّؤْيَةِ وَإِمَّا بِعَدَمِهِ وَتَارَةً لَا يَقْطَعُ بَلْ يَتَرَدَّدُ وَالْقَطْعُ بِأَحَدِ الطَّرَفَيْنِ مُسْتَنَدُهُ الْعَادَةُ كَمَا نَقْطَعُ فِي بَعْضِ الْأَجْرَامِ الْبَعِيدَةِ عَنَّا بِأَنَّا لَا نَرَاهَا وَلَا يُمْكِنَّا رُؤْيَتَهَا فِي الْعَادَةِ وَإِنْ كَانَ فِي الْإِمْكَانِ الْعَقْلِيِّ ذَلِكَ وَلَكِنْ يَكُونُ ذَلِكَ خَارِقًا لِلْعَادَةِ وَقَدْ يَقَعُ مُعْجِزَةً لِنَبِيٍّ أَوْ كَرَامَةً لِوَلِيٍّ أَمَّا غَيْرُهُمَا فَلَا، فَلَوْ أَخْبَرَنَا مُخْبِرٌ أَنَّهُ رَأَى شَخْصًا بَعِيدًا عَنْهُ فِي مَسَافَةِ يَوْمٍ مَثَلًا وَسَمِعَهُ يُقِرُّ بِحَقٍّ وَشَهِدَ عَلَيْهِ بِهِ لَمْ يُقْبَلْ خَبَرُهُ وَلَا شَهَادَتُهُ بِذَلِكَ وَلَا نُرَتِّبُ عَلَيْهَا حُكْمًا وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مُمْكِنًا فِي الْعَقْلِ لَكِنَّهُ مُسْتَحِيلٌ فِي الْعَادَةِ فَكَذَلِكَ إذَا شَهِدَ عِنْدَنَا اثْنَانِ أَوْ أَكْثَرُ مِمَّنْ يَجُوزُ كَذِبُهُمَا أَوْ غَلَطُهُمَا بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ وَقَدْ دَلَّ حِسَابُ تَسْيِيرِ مَنَازِلِ الْقَمَرِ عَلَى عَدَمِ إمْكَانِ رُؤْيَتِهِ فِي ذَلِكَ الَّذِي قَالَا: إنَّهُمَا رَأَيَاهُ فِيهِ تُرَدُّ شَهَادَتُهُمَا لِأَنَّ الْإِمْكَانَ شَرْطٌ فِي الْمَشْهُورِ بِهِ وَتَجْوِيزُ الْكَذِبِ وَالْغَلَطِ عَلَى الشَّاهِدَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ أَوْلَى مِنْ تَجْوِيزِ انْخِرَامِ الْعَادَةِ فَالْمُسْتَحِيلُ الْعَادِيُّ وَالْمُسْتَحِيلُ الْعَقْلِيُّ لَا يُقْبَلُ الْإِقْرَارُ بِهِ وَلَا الشَّهَادَةُ فَكَذَلِكَ الْمُسْتَحِيلُ الْعَادِيُّ، وَحَقٌّ عَلَى الْقَاضِي التَّيَقُّظُ لِذَلِكَ وَأَنْ لَا يَتَسَرَّعَ إلَى قَبُولِ الشَّاهِدَيْنِ حَتَّى يَفْحَصَ عَنْ حَالِ مَا شَهِدَا بِهِ مِنْ الْإِمْكَانِ وَعَدَمِهِ وَمَرَاتِبِ الْإِمْكَانِ فِيهِ وَهَلْ بَصَرُهُمَا يَقْتَضِي ذَلِكَ أَوْ لَا وَهَلْ هُمَا مِمَّنْ يُشْتَبَهُ عَلَيْهِمَا أَوْ لَا فَإِذَا تَبَيَّنَ لَهُ الْإِمْكَانُ وَإِنَّهُمَا مِمَّنْ يُجِيدُ بَصَرُهُمَا رُؤْيَتَهُ وَلَا يُشْتَبَهُ عَلَيْهِمَا لِفِطْنَتِهِمَا وَيَقِظَتِهِمَا وَلَا غَرَضَ لَهُمَا وَهُمَا عَدْلَانِ ذَلِكَ بِسَبَبٍ أَوْ لَا فَيُتَوَقَّفُ أَوْ يُرَدُّ؛ وَلَوْ كَانَ كُلُّ مَا يَشْهَدُ بِهِ شَاهِدَانِ يُثْبِتُهُ الْقَاضِي لَكَانَ كُلُّ أَحَدٍ يُدْرِكُ حَقِيقَةَ الْقَضَاءِ لَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ نَظَرٍ لِأَجْلِهِ جُعِلَ الْقَاضِي، فَإِذَا قَالَ الْقَاضِي: ثَبَتَ عِنْدِي عَلِمْنَا أَنَّهُ اسْتَوْفَى هَذِهِ الْأَحْوَالَ كُلَّهَا وَتَكَامَلَتْ شُرُوطُهَا عِنْدَهُ فَلِذَلِكَ يَنْبَغِي لِلْقَاضِي التَّثَبُّتُ وَعَدَمُ التَّسَرُّعِ مَظِنَّةَ الْغَلَطِ، وَلِهَذَا إنَّ الشَّاهِدَ الْمُتَسَرِّعَ إلَى أَدَاءِ الشَّهَادَةِ تُرَدُّ شَهَادَتُهُ وَمَنْ عُرِفَ مِنْهُ التَّسَرُّعُ فِي ذَلِكَ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ فِيهِ؛ وَمَرَاتِبُ مَا يَقُولُهُ الْحِسَابُ فِي ذَلِكَ