قَوْلُهُ {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} [الأنعام: 130] عَلَى ذَلِكَ فَالرُّسُلُ عَلَى الْإِطْلَاقِ مِنْ الْإِنْسِ وَهُمْ رُسُلُ اللَّهِ، وَالنُّذُرِ مِنْ الْجِنِّ وَهُمْ رُسُلُ الرُّسُلِ وَيَجُوزُ تَسْمِيَتُهُمْ رُسُلًا هَذَا قَوْلُ هَؤُلَاءِ.
وَقَالَ طَائِفَةٌ وَالْكَلْبِيُّ: تَأْوِيلُ الْآيَةِ وَقَوْلِهِ {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} [الأنعام: 130] كَقَوْلِهِ تَعَالَى {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن: 22] وَإِنَّمَا يَخْرُجُ مِنْ أَحَدِهِمَا، وَرُبَّمَا نُقِلَ مَعْنَى هَذَا عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ أَيْضًا وَغَيْرِهِ.
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ كَانَتْ الرُّسُلُ قَبْلَ أَنْ يُبْعَثَ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَبْعَثُونَ إلَى الْإِنْسِ وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى الْجِنِّ وَالْإِنْسِ يَعْنِي أَنَّهُمْ لَمْ يُرْسَلْ إلَيْهِمْ رَسُولٌ مِنْ الْإِنْسِ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى غَيْرَهُ وَأَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ فَلَمْ يَكُنْ فِيهِمْ إلَّا نُذُرٌ يُخْبِرُونَهُمْ عَنْ الرُّسُلِ وَتَقُومُ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ وَيَتَعَلَّقُ بِهِمْ التَّكْلِيفُ.
وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الْكَلْبِيُّ مِنْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُرْسَلٌ إلَى الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَمْ يُخَالِفْهُ فِيهِ أَحَدٌ وَالضَّحَّاكُ إنَّمَا خَالَفَهُ فِي الْأُمَمِ الْخَالِيَةِ كَمَا تُشِيرُ إلَيْهِ الرِّوَايَةُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ، وَقَوْلُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ سُلَيْمَانَ مِثْلُ الضَّحَّاكِ عَنْ الْجِنِّ هَلْ كَانَ فِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ قَبْلَ أَنْ يُبْعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَانْظُرْ هَذَا التَّقْيِيدَ فَمَنْ نَقَلَ عَنْ الضَّحَّاكِ مُطْلَقًا أَنَّ رُسُلَ الْجِنِّ مِنْهُمْ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى هَذَا التَّقْيِيدِ وَلَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ عَنْهُ أَنَّ ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَإِنْ تَوَهَّمَ ذَلِكَ أَحَدٌ عَلَيْهِ فَقَدْ أَخْطَأَ وَيَجِبُ عَلَيْهِ النُّزُوعُ عَنْهُ وَعَدَمُ اعْتِقَادِهِ، وَأَنْ لَا يَنْسِبَ إلَى رَجُلٍ عَالِمٍ مَا يُخَالِفُ الْإِجْمَاعَ فَيَكُونُ قَدْ جَنَى عَلَيْهِ جِنَايَةً يُطَالِبُهُ بِهَا بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ تَعَالَى.
وَقَوْلُ السَّائِلِ وَاحْتِمَالُ غَيْرِ ذَلِكَ عُدُولٌ عَنْ الظَّاهِرِ. عِبَارَةٌ رَدِيئَةٌ فَإِنَّ الْعُدُولَ عَنْ الظَّاهِرِ هُوَ سُلُوكُ ذَلِكَ الِاحْتِمَالِ وَالْقَوْلُ بِهِ لَا نَفْسُ الِاحْتِمَالِ، وَإِذَا صَحَّتْ الْعِبَارَةُ يُجَابُ بِأَنَّ الْعُدُولَ عَنْ الظَّاهِرِ جَائِزٌ بَلْ وَاجِبٌ إذَا دَلَّ عَلَيْهِ دَلِيلٌ، وَاَلَّذِينَ عَدَلُوا عَنْ الظَّاهِرِ فِي ذَلِكَ أَكَابِرُ الْأُمَّةِ ابْنُ عَبَّاسٍ فَمَنْ دُونَهُ وَأَيْنَ يَقَعُ الضَّحَّاكُ مِنْهُمْ أَوْ مَنْ وَافَقَهُ.
(فَصْلٌ) قَالَ السَّائِلُ: ثُمَّ إنَّ الْجِنَّ سَابِقُونَ عَلَى الْإِنْسِ فِي الْخَلْقِ وَالْوُجُودِ فَحَالُ وُجُودِهِمْ السَّابِقِ إمَّا أَنْ يَكُونَ أَرْسَلَ إلَيْهِمْ أَوْ لَا، وَالْأَوَّلُ: يَلْزَمُ كَوْنَ الرُّسُلِ مِنْ غَيْرِ الْإِنْسِ ضَرُورَةَ تَقَدُّمِهِمْ عَلَيْهِمْ.
وَالثَّانِي: يَلْزَمُ عَلَيْهِ عَدَمُ تَكْلِيفِهِمْ وَعَدَمُ تَعْذِيبِهِمْ وَذَلِكَ