"قد ذكرتُ فيما كتبته من المناسك أن السفر إلى مسجده وزيارة قبره -كما يذكره أئمة المسلمين في مناسك الحج- عمل صالح مستحب. وقد ذكرت في عدة مناسك الحج السنة في ذلك، وكيف يُسلّم عليه، وهل يستقبل الحجرة أم القبلة؟ على قولين؛ فالأكثرون يقولون: يستقبل الحجرة، كمالك والشافعي وأحمد، وأبو حنيفة يقول: يستقبل القبلة ويجعل الحجرة عن يساره في قول، وخلفه في قول، لأن الحجرة لما كانت خارجة المسجد وكان الصحابة يسلّمون عليه لم يكن يمكن أحد أن يستقبل وجهه صلى الله عليه وسلم ويستدبر القبلة، كما صار ذلك ممكناً بعد دخولها في المسجد.
ثم قال: وأما ما ذُكِرَ في المناسك أنه بعد تحية النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه والصلاة والسلام يدعو، فقد ذكر الإمام أحمد وغيره أنه يستقبل القبلة ويجعل الحجرة عن يساره، لئلا يستدبره -وذلك بعد تحيته والصلاة والسلام- ثم يدعو لنفسه، وذكروا أنه إذا حياه وصلى عليه يستقبل وجهه بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم، فإذا أراد الدعاء جعل الحجرة عن يساره واستقبل القبلة ودعا، وهذا مراعاة منهم لذلك، فإن الدعاء عند القبر لا يُكْرَهُ مطلقاً، بل يؤمر به، كما جاءت به السنة فيما تقدم ضمناً وتبعاً، وإنما المكروه أن يتحرى المجيء للقبر للدعاء عنده، وكذلك ذكر أصحاب مالك، قالوا: يدنو من القبر فيسلّم على النبي صلى الله عليه وسلم ثم يدعو مستقبل القبلة يوليه ظهره، وقيل لا يوليه ظهره، فإنما اختلفوا لما فيه من استدباره، فإما إذ جعل الحجرة عن يساره فقد زال المحذور بلا خلاف، وصار في الروضة أو أمامها، ولعل هذا الذي ذكره الأئمة أخذوه من كراهة الصلاة إلى القبر، فإن ذلك قد ثبت النهي فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم، فلما نهى أن يتخذ القبر مسجداً أو قبلة أمروا بأن لا يتحرى الدعاء إليه كما لا يصلّى إليه، ولهذا والله أعلم حرفت الحجرة وثلثت لما بنيت، فلم يجعل حائطها الشمالي على سمت القبلة ولا جعل مسطحاً، ولذلك قصدوا قبل أن تدخل الحجرة في المسجد".
ثم إن الشيخ رحمه الله أطال الكلام إلى أن ذكر مسألة السفر للصلاة في المسجد ثم قال: "والصلاة تقصر في هذا السفر المستحب بإجماع المسلمين، لم