وبهذا تكون المدرسة العراقية قد أَثرَت المذهب المالكي، ومنحته أبعادًا جديدة، وجبرت نقائص مدارسه الأخرى. غير أن أمدها لم يدم طويلًا، فبموت شيوخ المذهب وكبرائه، وخروج القاضي عبد الوهّاب إلى مصر بدأ أفولها، ولم يكد ينقضي القرن الخامس، حتّى انتهت كليًا، وقد كان آخرهم وفاة الإمام أبو يعلى أحمد بن محمَّد العبدي البصري (489هـ) (?).

وللأسف، فإن ذخائر مالكية العراق قد ضلّت طريقها إلينا، من جملة ما ضلّ من إرث هذه الأمّة العزيز، أو ما تزال حبيسة المكتبات والزوايا.

ومع تراجع مستوى الاجتهاد الفقهي وانحساره، إلى جانب تزايد التعصّب المذهبي، واكتفاء المفتين بالرّجوع إلى ما عليه العمل عند المتأخرين، واستهجان رأي المخالف، ووصفه بأشنع أوصاف التّضليل والتّفسيق والتّبديع، بات من الواجب على الأحفاد - صونًا لأمانة الأجداد، وإحياءً للنماذج الفقهية واسعة الأُفُقِ، المتحلّية مع المخالف بزينة الحلم والرّفق -، البحثُ عن هذه الدّفائن، وخدمتُها حقّ الخدمة، وإخراجُها إلى عموم الطّلبة والعلّماء.

وقد شهدت السّاحة العلّميّة في الآونة الأخيرة - بحمد الله-، إنقاذ كثير من هذا الكنز الضّمار، فطُبعت جملة وافرة من مؤلفات القاضي عبد الوهّاب، وقِطع نادرة لأمثال: إسماعيل القاضي (قطعة من أحكام القرآن)، وأبي بكر الأبهري "شرح كتاب الجامع من مختصر ابن عبد الحكم)، وابن الجلّاب (التفريع)، وابن القصّار (المقدِّمة الأصولية، وقطعتين من عيون الأدلّة) ... ولا تزال الهمم طموحة لإنقاذ الكمّ الأكبر المتبقّي من تركة هذه المدرسة العتيقة.

ومحاولة منّي للمشاركة في هذا المسعى العلّمي النّبيل، فإنّي أقدّم

طور بواسطة نورين ميديا © 2015