بعد أن تأكدنا أن البداية الصحيحة لاستعادة مجد الإسلام من جديد هي العمل على زيادة الإيمان والتمكين له في قلوبنا، يبقى السؤال: كيف لنا أن نفعل ذلك؟ وما هي الوسائل التي من شأنها أن تشفي قلوبنا، وترفع عنا أثقالنا، وتحرر قيودنا، وتدفعنا لأن نكون دوما في حالة من الانتباه واليقظة، وسرعة الإذعان والتلبية لله عز وجل؟!
قبل أن يتم الحديث عن الوسائل المقترحة لحل مشكلتنا الإيمانية، إليك -أخي القارئ- بعضا من النماذج العملية التي تترجم الحالة الإيمانية التي نريد أن نكون عليها أو نقترب منها، لننطلق من خلالها باحثين ومدققين عن كيفية الوصول إليها.
وقد آثرنا أن تكون تلك النماذج من الجيل الأول الذي قال الله عنه: {وَالسَّابِقُونَ الأوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 100].
كان بعض الصحابة يصلي العصر في مسجد من مساجد المدينة النبوية، وكانت قبلة المسلمين آنذاك هي بيت المقدس، وبينما هم في ركوع الركعة الثالثة إذ دخل عليهم رجل ونادى بصوت مرتفع بأن القبلة تحولت إلى الكعبة، وأنه صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في اتجاهها.
تخيل نفسك يا أخي لو كنت مكانهم، وقد انتصفت الصلاة ومضى منها ركعتان، ماذا كنت ستفعل؟! أليس من الطبيعي أن تنتظر حتى تفرغ من صلاتك، ثم تتبين الأمر؟!
نعم هذا هو التصرف الطبيعي والشيء المتوقع، لكن الصحابة كان لهم رأي آخر.
أتدري ما هو؟! لقد استداروا وهم راكعون إلى اتجاه الكعبة, تحركوا في نصف دائرة .. النساء، الرجال، الإمام.
ما الذي دفعهم إلى ذلك؟!
ما السبب الذي جعلهم يستجيبون بهذه السرعة ودون مناقشة ولا تردد أو تلكؤ؟!
وهل كانت هذه هي الحالة الوحيدة التي تم فيها رصد هذا الإذعان العجيب لله عز وجل؟! لنقرأ هذه الأسطر لعلها تجيب عن هذه الأسئلة.
تعوَّد العرب على تخمير التمر والشعير، والعنب والعسل والحنطة وشرب مائها الذي كان من شأنه أن يذهب ببعض العقل، وكانت القلال التي تحتوي على هذا الشراب تملأ البيوت، وفي يوم من الأيام وبينما كان أحد الصحابة، وهو أنس بن مالك رضي الله عنه، يسقي البعض من هذا الشراب إذا برجل من المسلمين يمر عليهم ويقول لهم: هل علمتم أن الخمر قد حُرّمت؟! فماذا فعلوا؟! وهل ناقشوه ليستوثقوا من الخير؟! هل قالوا: لنكمل ما في أيدينا ثم نذهب لنتأكد من صحة الخبر من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!
لا، لم يفعلوا ذلك، بل انتفضوا وقالوا: يا أنس اسكب ما بقي في إنائك، ولم يعودوا إليها أبدًا، وكذلك فعل جميع من في المدينة من المسلمين، لدرجة أن بعضهم كان في شُربه والقدح في يده، ولا زال فيه بقية، ولما سمع بالتحريم سارع بنزعه من فمه، وسكبه.
امتلأت شوارع المدينة وسككها بالخمر خلال زمن يسير, كل ذلك حدث بمجرد نزول قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأنصَابُ وَالأزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنْتُم مُّنتَهُونَ} [المائدة: 90، 91] وإذا بهم جميعًا يرددون: انتهينا ربنا، بل كان ما يشغلهم وقتها هو حكم من مات من الصحابة وهو يشربها, فأنزل الله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} [المائدة: 93].
وهذا حنظلة أحد الصحابة الذين استشهدوا في غزوة أحد. بينما كان مع زوجته في أيام عرسه، إذ سمع منادي الجهاد ينادي: حي على الجهاد، فماذا فعل؟!
ماذا فعل وهو في أشد لحظات الاستمتاع بالدنيا؟!
من الوارد أن يسرع بتلبية النداء ولكن بعد أن يغتسل من جنابته، ويتجهز للقتال، لكنه كان أسرع من ذلك، فقد سارع إلى ساحة المعركة دون تفكير في أي شيء آخر، وقاتل وقتل، وعندما أراد المسلمون دفنه وجدوا جسده يقطر ماءًا، فاستغربوا الأمر، وذهبوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ليخبروه بما حدث، فقال لهم: سلوا أهله، فأخبرتهم زوجته بما كان منه، فأنبأهم صلى الله عليه وسلم بأن الملائكة قد قامت بتغسيله بالماء ليتطهر من جنابته.