مُرْسلا إِلَيْهِم. وَأجِيب عَن ذَلِك: بِأَن هَذَا الْعُمُوم الَّذِي فِي رسَالَته لم يكن فِي أصل الْبعْثَة، وَإِنَّمَا وَقع لأجل الْحَادِث الَّذِي حدث، وَهُوَ: انحصار الْخلق فِي الْمَوْجُودين مَعَه بِهَلَاك سَائِر النَّاس، وَعُمُوم رِسَالَة نَبينَا، فِي أصل الْبعْثَة. وَزعم ابْن الْجَوْزِيّ أَنه: كَانَ فِي الزَّمَان الأول، إِذا بعث نَبِي إِلَى قوم بعث غَيره إِلَى آخَرين، وَكَانَ يجْتَمع فِي الزَّمن الْوَاحِد جمَاعَة من الرُّسُل، فَأَما نَبينَا عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَإِنَّهُ انْفَرد بالبعثة، فَصَارَ بذلك للْكُلّ من غير أَن يزاحمه أحد.

فَإِن قلت: يَقُول أهل الْموقف لنوح، كَمَا صَحَّ فِي حَدِيث الشَّفَاعَة: أَنْت أول رَسُول إِلَى أهل الأَرْض، فَدلَّ على أَنه كَانَ مَبْعُوثًا إِلَى كل من فِي الأَرْض. قلت: لَيْسَ المُرَاد بِهِ عُمُوم بعثته، بل إِثْبَات أولية إرْسَاله، وَلَئِن سلمنَا أَنه يكون مرَادا فَهُوَ مَخْصُوص بتنصيصه، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فِي عدَّة آيَات على أَن إرْسَال نوح عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام إِلَى قومه، وَلم يذكر أَنه أرسل إِلَى غَيرهم. فَإِن قلت: لَو لم يكن مَبْعُوثًا إِلَى أهل الأَرْض كلهم لما أهلكت كلهم بِالْغَرَقِ إلاَّ أهل السَّفِينَة، لقَوْله تَعَالَى: {وَمَا كُنَّا معذبين حَتَّى نبعث رَسُولا} (الْإِسْرَاء: 51) . قلت: قد يجوز أَن يكون غَيره أرسل إِلَيْهِم فِي ابْتِدَاء مُدَّة نوح، وَعلم نوح، بِأَنَّهُم لم يُؤمنُوا، فَدَعَا على من لم يُؤمن من قومه وَغَيرهم. قيل: هَذَا جَوَاب حسن، وَلَكِن لم ينْقل أَنه نبىء فِي زمن غَيره. قلت: يحْتَمل أَنه قد بلغ جَمِيع النَّاس دعاؤه قومه إِلَى التَّوْحِيد فتمادوا على الشّرك فاستحقوا الْعَذَاب، وَإِلَى هَذَا ذهب يحيى بن عَطِيَّة فِي تَفْسِيره سُورَة هود، قَالَ: وَغير مُمكن أَن نبوته لم تبلغ الْقَرِيب والبعيد لطول مدَّته. وَقَالَ الْقشيرِي: تَوْحِيد اتعالى يجوز أَن يكون عَاما فِي حق بعض الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَإِن كَانَ الْتِزَام فروع شَرعه لَيْسَ عَاما، لِأَن مِنْهُم من قَاتل غير قومه على الشّرك، وَلَو لم يكن التَّوْحِيد لَازِما لَهُم لم يقاتلهم. قلت: فِيهِ نظر لَا يخفى، وَأجَاب بَعضهم بِأَنَّهُ لم يكن فِي الأَرْض عِنْد إرْسَال نوح إلاَّ قوم نوح، فبعثته خَاصَّة لكَونهَا إِلَى قومه فَقَط لعدم وجود غَيرهم، لَكِن لَو اتّفق وجود غَيرهم لم يكن مَبْعُوثًا إِلَيْهِم. قلت: وَفِيه نظر أَيْضا، لِأَنَّهُ تكون بعثته عَامَّة لِقَوْمِهِ لكَوْنهم هم الْمَوْجُودين، وَعِنْدِي جَوَاب آخر، وَهُوَ جيد إِن شَاءَ اتعالى، وَهُوَ أَن الطوفان لم يُرْسل إلاَّ على قومه الَّذين هُوَ فيهم، وَلم يكن عَاما.

قَوْله: (نصرت بِالرُّعْبِ) زَاد أَبُو أُمَامَة: (يقذف فِي قُلُوب أعدائي) ، كَمَا ذَكرْنَاهُ، وَهُوَ بِضَم الرَّاء وَسُكُون الْعين: الْخَوْف. وَقَرَأَ ابْن عَامر وَالْكسَائِيّ بِضَم الْعين وَالْبَاقُونَ بسكونها، يُقَال: رعبت الرجل أرعبته رعْبًا أَي: ملأته خوفًا، وَلَا يُقَال: أرعبته، كَذَا ذكره أَبُو الْمَعَالِي. وَحكي عَن ابْن طَلْحَة: أرعبته ورعبته، فَهُوَ مرعب. وَفِي (الْمُحكم) فو رعيب، ورعبته ترعيباً وترعاباً فرعب. وَفِي (الْجَامِع) للقزاز: رعبته فَأَنا راعب، وَيُقَال: رعب فَهُوَ مرعوب، وَالِاسْم: الرعب بِالضَّمِّ، وَفِي (الموعب) لِابْنِ التياني: رجل رعب ومرتعب وَقد رعب ورعب. قَوْله: (مسيرَة شهر) . والنكتة فِي جعل الْغَايَة شهرا لِأَنَّهُ لم يكن بَين الْمَدِينَة وَبَين أحد من أعدائه أَكثر من شهر. قَوْله: (وَجعلت لي الأَرْض مَسْجِدا) أَي: مَوضِع سُجُود، وَهُوَ وضع الْجَبْهَة على الأَرْض. وَلم يكن اخْتصَّ السُّجُود مِنْهَا بِموضع دون مَوضِع، وَيحْتَمل أَن يكون المُرَاد من الْمَسْجِد هُوَ الْمَسْجِد الْمَعْرُوف الَّذِي يُصَلِّي فِيهِ الْقَوْم، فَإِذا كَانَ جَوَازهَا فِي جَمِيعهَا كَانَ الْمَسْجِد الْمَعْهُود كَذَلِك، وَقَالَ القَاضِي عِيَاض: من كَانَ قبله من الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام، إِنَّمَا أُبِيح لَهُم الصَّلَاة فِي مَوَاضِع مَخْصُوصَة: كَالْبيع وَالْكَنَائِس، وَقيل: فِي مَوضِع يتيقنون طَهَارَته من الأَرْض، وخصت هَذِه الْأمة بِجَوَاز الصَّلَاة فِي جَمِيع الأَرْض إلاَّ فِي الْمَوَاضِع المستثناة بِالشَّرْعِ، أَو مَوضِع تيقنت نَجَاسَته. فَإِن قلت: كَانَ عِيسَى، عَلَيْهِ السَّلَام، يسيح فِي الأَرْض وَيُصلي حَيْثُ أَدْرَكته الصَّلَاة. قلت: ذكر مَسْجِدا وَطهُورًا، وَهَذَا مُخْتَصّ بِالنَّبِيِّ حَيْثُ كَانَ يجوز لَهُ أَن يُصَلِّي فِي أَي مَوضِع أَدْرَكته الصَّلَاة فِيهِ، وَكَذَلِكَ التَّيَمُّم مِنْهُ، وَلم يكن لعيسى عَلَيْهِ السَّلَام، إِلَّا الصَّلَاة دون التَّيَمُّم.

قَوْله: (فأيما رجل) . لفظ أَي، مُبْتَدأ مُتَضَمّن لِمَعْنى الشَّرْط، وَلَفْظَة: مَا زيدت لزِيَادَة التَّعْمِيم. وَقَوله: (فَليصل) خبر الْمُبْتَدَأ، وَدخُول: الْفَاء، فِيهِ لكَون الْمُبْتَدَأ متضمناً لِمَعْنى الشَّرْط. وَقيل: مَعْنَاهُ فليتيمم ليصل ليناسب الْأَمريْنِ الْمَسْجِد وَالطهُور. قَوْله: (من أمتِي) يتَعَلَّق بِمَحْذُوف تَقْدِيره: كَائِن من أمتِي. وَقَوله: (أَدْرَكته الصَّلَاة) جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل وَالْمَفْعُول فِي مَحل الْجَرّ لِأَنَّهَا صفة رجل. قَوْله: (الْغَنَائِم) وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (الْمَغَانِم) ، والغنائم: جَمِيع غنيمَة، وَهِي مَال حصل من الْكفَّار بِإِيجَاف خيل وركاب، والمغانم: جمع مغنم. وَقَالَ الْجَوْهَرِي: الْغَنِيمَة والمغنم بِمَعْنى وَاحِد. قَالَ الْخطابِيّ: كَانَ من تقدم على ضَرْبَيْنِ: مِنْهُم من لم يُؤذن

طور بواسطة نورين ميديا © 2015