من التَّمْر وَالزَّبِيب وَالْعَسَل وَالْحِنْطَة وَالشعِير وَغير ذَلِك، يُقَال: نبذت الشّعير وَالْعِنَب إِذا أنزلت عَلَيْهِ المَاء ليصير نبيذاً، فصرف من مفعول إِلَى فعيل، وانتبذته، اتخذته نبيذاً سَوَاء كَانَ مُسكرا أَو غير مُسكر، وَهُوَ من بَاب فعل يفعل، بِالْفَتْح فِي الْمَاضِي وَالْكَسْر فِي الْمُضَارع. كضرب ذكره صَاحب (الدستور) فِي هَذَا الْبَاب وَفِي (الْعباب) انبذت النَّبِيذ لُغَة عامية ونبذت الشَّيْء تنبيذاً شدّد للْمُبَالَغَة.
فَإِن قلت: مَا وَجه لمناسبة بَين الْبَابَيْنِ؟ قلت: لَيست بَينهمَا مُنَاسبَة خَاصَّة لَكِن من حَيْثُ إِن كلاًّ مِنْهُمَا يشْتَمل على حكم وَيرجع إِلَى حَال الْمُكَلف من الصِّحَّة والفسادة.
وَكَرُهَه الحَسَنُ وَأَبُوا العَالِيَةِ
الْحسن هُوَ الْبَصْرِيّ وَأَبُو الْعَالِيَة رفيع بن مهْرَان الرباحي بِكَسْر الرَّاء وبالياء آخر الْحُرُوف المخففة وَكسر الْحَاء الْمُهْملَة وَقد تقدم فِي أول كتاب الْعلم ورفيع بِضَم الرَّاء وَفتح الْفَاء وَأما الَّذِي علقه عَن الْحسن فَرَوَاهُ عَن الْحسن فَرَوَاهُ ابْن أبي شيبَة حَدثنَا وَكِيع عَن سُفْيَان عَمَّن سمع الْحسن يَقُول: (لَا يتَوَضَّأ بنبيذ وَلَا بِلَبن) وَرَوَاهُ عبد الرَّزَّاق فِي مُصَنفه حدّثنا الثَّوْريّ عَن إِسْمَاعِيل بن مُسلم الْمَكِّيّ عَن الْحسن قَالَ: (لَا يتَوَضَّأ بِلَبن وَلَا بنبيذ) وروى أَبُو عبيد من طَرِيق أُخْرَى عَن الْحسن أَنه لَا بَأْس بِهِ فعلى هَذَا كَرَاهَته عِنْده كَرَاهَة تَنْزِيه فَحِينَئِذٍ لَا يساعد التَّرْجَمَة وَأما الَّذِي علقه عَن أبي الْعَالِيَة فروى الدَّارَقُطْنِيّ فِي سنَنه بِسَنَد جيد عَن أبي خلدَة فَقَالَ: قلت لأبي الْعَالِيَة رجل لَيْسَ عِنْده مَاء وَعِنْده نَبِيذ أيغتسل بِهِ من الْجَنَابَة قَالَ: لَا وَقَالَ ابْن أبي شيبَة: حَدثنَا مَرْوَان ابْن مُعَاوِيَة عَن أبي خلدَة عَن أبي الْعَالِيَة أَنه كره أَن يغْتَسل بالنبيذ وَكَذَا رَوَاهُ أَبُو عبيد عَن أبي خلدَة وَفِي رِوَايَة فكرهه. قلت: الظَّاهِر أَن هَذَا أَيْضا كَرَاهَة تَنْزِيه.
وقالَ عَطَاء التيَمُّمُ أَحَب إلَيَّ مِنَ الوُضُوءِ بالنَّبِيذِ واللبَنِ
عَطاء هُوَ ابْن أبي رَبَاح، وَهَذَا يدل على أَن عَطاء يُجِيز اسْتِعْمَال النَّبِيذ فِي الْوضُوء، وَلَكِن التَّيَمُّم أحب إِلَيْهِ مِنْهُ، فعلى هَذَا هُوَ أَيْضا لَا يساعد التَّرْجَمَة، وروى أَبُو دَاوُد من طَرِيق ابْن جريج عَن عَطاء إِنَّه كره الْوضُوء بالنبيذ وَاللَّبن وَقَالَ: إِن التَّيَمُّم أعجب إِلَيّ مِنْهُ. قلت: أما التَّوَضُّؤ بِاللَّبنِ، فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَن يكون بِنَفس اللَّبن، أَو بِمَاء خالطه لبن، فَالْأول لَا يجوز بِالْإِجْمَاع وَأما الثَّانِي فَيجوز عندنَا خلافًا للشَّافِعِيّ. وَأما الْوضُوء بالنبيذ فَهُوَ جَائِز عِنْد أبي حنيفَة، وَلَكِن بِشَرْط أَن يكون حلواً رَقِيقا يسيل على الْأَعْضَاء كَالْمَاءِ، وَمَا اشتده مِنْهَا صَار حَرَامًا لَا يجوز التَّوَضُّؤ بِهِ وَإِن غيرته النَّار، فَمَا دَامَ حلواً فَهُوَ على الْخلاف، وَلَا يجوز التَّوَضُّؤ بِمَا سواهُ من الأنبذة جَريا على قَضِيَّة الْقيَاس. وَقَالَ ابْن بطال: اخْتلفُوا فِي الْوضُوء بالنبيذ، فَقَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد: لَا يجوز الْوضُوء بنيِّه ومطبوخة مَعَ عدم المَاء وجوده، تَمرا كَانَ أَو غَيره، فآن كَانَ مَعَ ذَلِك مشتداً فَهُوَ نجس لَا يجوز شربه وَلَا الْوضُوء بِهِ وَقَالَ أَبُو حنيفَة: لَا يجوز الْوضُوء بِهِ مَعَ وجود المَاء، فَإِذا عدم فَيجوز بمبطوح التَّمْر خَاصَّة. وَقَالَ الْحسن: جَازَ الْوضُوء بالنبيذ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيّ: جَازَ بِسَائِر الأنبذة انْتهى. وَفِي (الْمَعْنى) لِابْنِ قدامَة وَرُوِيَ عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ إِنَّه كَانَ لَا يرى بَأْسا بِالْوضُوءِ بنبيذ التَّمْر، وَبِه قَالَ الْحسن والأزاعي. وَقَالَ عِكْرِمَة: النَّبِيذ وضوء من لم يجد المَاء، وَقَالَ إِسْحَاق: النَّبِيذ الحلو أحب إِلَيّ من التَّيَمُّم، وجمعهما أحب إليَّ وَعَن أبي حنيفَة كَقَوْل عِكْرِمَة، وَقيل عَنهُ: يجوز الْوضُوء بنبيذ التَّمْر إِذا طبخ وَاشْتَدَّ عِنْد عدم المَاء فِي السّفر، لحَدِيث ابْن مَسْعُود، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. وَفِي (أَحْكَام الْقُرْآن) لأبي بكر الرَّازِيّ، عَن أبي حنيفَة فِي ذَلِك ثَلَاث رِوَايَات. إِحْدَاهَا: يتَوَضَّأ بِهِ وَيشْتَرط فِيهِ النِّيَّة، وَلَا يتَيَمَّم، وَهَذِه هِيَ الْمَشْهُورَة، وَقَالَ قاضيخان، وَهُوَ قَوْله الأول، وَبِه قَالَ زفر. وَالثَّانيَِة: يتَيَمَّم وَلَا يتَوَضَّأ، رَوَاهَا عَنهُ نوح ابْن أبي مَرْيَم، وَأسد بن عَمْرو، وَالْحسن بن زِيَاد قَالَ قاضيخان: وَهُوَ الصَّحِيح عَنهُ، وَالَّذِي رَجَعَ إِلَيْهَا وَبهَا قَالَ أَبُو يُوسُف وَأكْثر الْعلمَاء، وَاخْتَارَ الطَّحَاوِيّ هَذَا. وَالثَّالِثَة: رُوِيَ عَنهُ الْجمع بَينهمَا، وَهَذَا قَول مُحَمَّد وَقَالَ صَاحب (الْمُحِيط) صفة هَذَا النَّبِيذ أَن يلقى فِي المَاء تُمَيْرَات حَتَّى يَأْخُذ المَاء حلاوتها وَلَا يشْتَد وَلَا يسكر، فَإِن اشْتَدَّ حرم شربه، فَكيف الْوضُوء؟ وَإِن كَانَ مطبوخاً فَالصَّحِيح أَنه لَا يتَوَضَّأ بِهِ. وَقَالَ فِي (الْمُفِيد) إِذا ألْقى فِيهِ تمرات فحلا وَلم يزل عَنهُ اسْم المَاء وَهُوَ رَقِيق فَيجوز الْوضُوء بِهِ بِلَا خلاف بَين أَصْحَابنَا، وَلَا يجوز الِاغْتِسَال بِهِ وَهَذَا خلاف مَا قَالَه فِي (الْمَبْسُوط) أَنه يجوز الِاغْتِسَال بِهِ وَقَالَ الْكَرْخِي: الْمَطْبُوخ أدنى طبخة يجوز الْوضُوء بِهِ إلاَّ عِنْد مُحَمَّد، وَقَالَ الدباس: لَا يجوز، وَفِي