وَالزهْرِيّ، وَبِه قَالَ الْكُوفِيُّونَ: وَلَا يجمع مهر مَعَ الْمُتْعَة. وَقَالَ ابْن عبد الْبر: وَبِه قَالَ شُرَيْح وَعبد الله بن مُغفل أَيْضا، وَقَالَت الْحَنَفِيَّة: فَإِن دخل بهَا ثمَّ طَلقهَا فَإِنَّهُ يمتعها وَلَا يجْبر عَلَيْهِ هُنَا، وَهُوَ قَول الثَّوْريّ وَابْن حَيّ وَالْأَوْزَاعِيّ، إِلَّا أَن الْأَوْزَاعِيّ قَالَ: فَإِن كَانَ أحد الزَّوْجَيْنِ مَمْلُوكا لم تجب وَقَالَ أَبُو عمر: وَقد رُوِيَ عَن الشَّافِعِي مثل قَول أبي حنيفَة وَقَالَت طَائِفَة: لكل مُطلقَة مُتْعَة مَدْخُولا بهَا كَانَت أَو غير مَدْخُول بهَا إِذا وَقع الْفِرَاق من قبله وَلم يتم إلاَّ بِهِ إلاَّ الَّتي سمى لَهَا وَطَلقهَا، قبل الدُّخُول، وَهُوَ قَول الشَّافِعِي وَأبي ثَوْر، وَرُوِيَ عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: لكل مُطلقَة مُتْعَة، وَمثله عَن الْحسن وَسَعِيد بن جُبَير وَأبي قلَابَة. وَقَالَت طَائِفَة: الْمُتْعَة لَيست بواجبة فِي مَوضِع من الْمَوَاضِع، وَهُوَ قَول ابْن أبي ليلى وَرَبِيعَة وَمَالك وَاللَّيْث وَابْن أبي أُسَامَة.
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا جُناحَ عَلَيْكُمْ إنْ طَلَقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} إلَى قَوْلِهِ: {إنَّ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرا} (الْبَقَرَة: 237)
اسْتدلَّ البُخَارِيّ بِهَذِهِ الْآيَة على وجوب الْمُتْعَة لكل مُطلقَة مُطلقًا، وَهُوَ قَول سعيد بن جُبَير وَغَيره، وَاخْتَارَهُ ابْن جرير، وَتَمام الْآيَة: {مَا لم تمَسُّوهُنَّ أَو تفرضوا لَهُنَّ فَرِيضَة ومتعوهن على الموسع قدره وعَلى المقتر قدره مَتَاعا بِالْمَعْرُوفِ حَقًا على الْمُحْسِنِينَ} قَوْله: (متعوهن) ، أَمر بإمتاعها وَهُوَ تعويضها عَمَّا فاتها بِشَيْء تعطاه من زَوجهَا بِحَسب حَاله. (على الموسع قدره وعَلى المقتر قدره) والموسع الَّذِي لَهُ سَعَة، والمقتر الضّيق الْحَال. قَوْله: (قدره) ، أَي: مِقْدَاره الَّذِي يطيقه وَهَذِه الْآيَة نزلت فِي رجل من الْأَنْصَار تزوج بِامْرَأَة من بني حنيفَة وَلم يسم لَهَا مهْرا ثمَّ طَلقهَا قبل الدُّخُول. فَقَالَ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، مَتعهَا وَلَو بقلنسوة. وَقَالَ أَصْحَابنَا: لَا تجب الْمُتْعَة إلاَّ لهَذِهِ وَحدهَا، وتستحب لسَائِر المطلقات. قَوْله: (مَتَاعا) ، تَأْكِيد لقَوْله: (ومتعوهن) بِمَعْنى تمتيعا (بِالْمَعْرُوفِ) الَّذِي يحسن فِي الشَّرْع والمروءة. قَوْله: (حَقًا) ، صفة لمتاعا أَي: مَتَاعا وَاجِبا عَلَيْهِم أَو حق ذَلِك حَقًا على الْمُحْسِنِينَ الَّذين يحسنون إِلَى المطلقات بالتمتع.
وَقَوْلِهِ: {وَلِلْمُطَلِّقَاتِ مَتاعٌ بالمَعْرُوفِ حَقّا عَلَى المُتَقِينَ كَذالِكَ يُبَيِّنُ الله لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَكُمْ تَعْقِلْونَ (الْبَقَرَة: 241، 242) .
أَي: لقَوْله تَعَالَى: {وللمطلقات} الْآيَة. وَاسْتدلَّ البُخَارِيّ أَيْضا بِعُمُوم هَذِه الْآيَة فِي وجوب الْمُتْعَة لكل مُطلقَة مُطلقا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: عَم المطلقات بِإِيجَاب الْمُتْعَة لَهُنَّ بَعْدَمَا أوجبهَا لوَاحِدَة مِنْهُنَّ. وَهِي الْمُطلقَة غير الْمَدْخُول بهَا. وَقَالَ: (حَقًا على الْمُتَّقِينَ) كَمَا قَالَ ثمَّة (حَقًا على الْمُحْسِنِينَ) وَالَّذِي فصل يَقُول: إِن هَذِه مَنْسُوخَة بِتِلْكَ الْآيَة وَهِي قَوْله تَعَالَى: {لَا جنَاح عَلَيْكُم إِن طلّقْتُم النِّسَاء} الْآيَة. فَإِن قلت: كَيفَ نسخت الْآيَة الْمُتَقَدّمَة الْمُتَأَخِّرَة. قلت: قد تكون الْآيَة مُتَقَدّمَة فِي التِّلَاوَة وَهِي مُتَأَخِّرَة فِي التَّنْزِيل. كَقَوْلِه: (سَيَقُولُ السُّفَهَاء) (الْبَقَرَة: 142) مَعَ قَوْله: {قد نرى تقلب وَجهك فِي السَّمَاء} (الْبَقَرَة: 144) وَقَالَ أَبُو عمر: لم يخْتَلف الْعلمَاء أَن الْمُتْعَة الْمَذْكُورَة فِي الْكتاب الْعَزِيز غير مقدرَة وَلَا محدودة وَلَا مَعْلُوم مبلغها وَلَا مُوجب قدرهَا، فَروِيَ عَن مَالك أَن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف طلق امْرَأَة لَهُ فمتعها بوليدة، وَكَانَ ابْن سِيرِين يمتع بالخادم أَو النَّفَقَة أَو الْكسْوَة، ويمتع الْحسن بن عَليّ زَوجته بِعشْرَة آلَاف فَقَالَت: مَتَاع قَلِيل من حبيب مفارق، ويمتع شُرَيْح بِخَمْسِمِائَة دِرْهَم، وَالْأسود بن يزِيد بِثَلَاث مائَة، وَعُرْوَة بخادم، وَقَالَ قَتَادَة: الْمُتْعَة جِلْبَاب وَدرع وخمار، وَإِلَيْهِ ذهب أَبُو حنيفَة رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَقَالَ: هَذَا لكل حرَّة أَو أمة أَو كِتَابِيَّة إِذا وَقع الطَّلَاق من جِهَة، وَعَن ابْن عمر: ثَلَاثُونَ درهما وَفِي رِوَايَة إِنَّه يمتع بوليدة.
{وَلَمْ يَذْكُرِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي المُلاعَنَةِ مُتْعَةً حِينَ طَلَقَها زَوْجُها}
هَذَا من كَلَام البُخَارِيّ أَرَادَ بِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يذكر فِي الْأَحَادِيث الَّتِي رويت عَنهُ فِي اللّعان مُتْعَة، وَكَأَنَّهُ تمسك بِهَذَا أَن الْمُلَاعنَة لَا مُتْعَة لَهَا، وَقَالَ الْكرْمَانِي: الْمَفْهُوم من كَلَام البُخَارِيّ أَن لكل مُطلقَة مُتْعَة والملاعنة غير دَاخِلَة فِي جملَة المطلقات. ثمَّ قَالَ: لفظ طَلقهَا، صَرِيح فِي أَنَّهَا مُطلقَة، ثمَّ أجَاب بِأَن الْفِرَاق حَاصِل بِنَفس اللّعان حَيْثُ قَالَ: فَلَا سَبِيل لَك عَلَيْهَا، وتطليقه لم يكن بِأَمْر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بل كَانَ كلَاما زَائِدا صدر مِنْهُ تَأْكِيدًا.