قَالَ مُجَاهِدٌ الصَّافِنَاتُ صَفَنَ الفَرَس رَفَعَ إحْدى رِجْلَيْهِ حتَّى تَكُونَ علَى طَرَفِ الحَافِرِ، الجِيَادُ السِّرَاع
أَي: قَالَ مُجَاهِد فِي قَوْله تَعَالَى: {إِذْ عرض عَلَيْهِ بالْعَشي الصافنات الْجِيَاد} (ص: 13) . أَن الصافنات من صفن الْفرس إِلَى آخِره يَعْنِي: مُشْتَقّ مِنْهُ وَهُوَ جمع صافنة، وَقَالَ النَّسَفِيّ: الصَّافِن من الْخَيل الْقَائِم على ثَلَاث قَوَائِم، وَقد أَقَامَ الرَّابِعَة على طرف الْحَافِر، والصفون لَا يكَاد يكون فِي الهجن وَإِنَّمَا هُوَ فِي العراب الخلص، وَوصل الْفرْيَابِيّ إِلَى مُجَاهِد مَا قَالَه، لَكِن فِي رِوَايَته: يَدَيْهِ، وَالْمَوْجُود فِي أصل البُخَارِيّ: رجلَيْهِ، وَصوب القَاضِي عِيَاض مَا عِنْد الْفرْيَابِيّ. قَوْله: (الْجِيَاد السراع) بِكَسْر السِّين الْمُهْملَة، وَفِي التَّفْسِير: الْجِيَاد المسرعة فِي الجري جمع جواد، وَقيل: جمع جيد، جمع لَهَا بَين وصفين محمودين.
جَسَداً شَيْطانَاً
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وألقينا على كرسيه جسداً} (ص: 43) . وَفسّر جسداً بقوله: شَيْطَانا، وَقَالَ الْفرْيَابِيّ: حَدثنَا وَرْقَاء عَن ابْن أبي نجيح فِي قَوْله تَعَالَى: {وألقينا على كرسيه جسداً} (ص: 43) . قَالَ: شَيْطَانا يُقَال لَهُ آصف، قَالَ لَهُ سُلَيْمَان، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، كَيفَ تفتن النَّاس؟ قَالَ: أَرِنِي خاتمك أخْبرك، فَأعْطَاهُ فنبذه آصف فِي الْبَحْر فساخ، فَذهب سُلَيْمَان وَقعد أصف على كرسيه وَمنع الله نسَاء سُلَيْمَان فَلم يقربهن، فأنكرته أم سُلَيْمَان، وَكَانَ سُلَيْمَان عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، يستطعم ويعرفهم بِنَفسِهِ فيكذبونه حَتَّى أَعطَتْهُ امْرَأَة حوتاً فطب بَطْنه فَوجدَ خَاتمه فِي بَطْنه، فَرد الله إِلَيْهِ ملكه، وفر آصف فَدخل الْبَحْر. وَرَوَاهُ ابْن جرير من وَجه آخر عَن مُجَاهِد: أَن اسْمه آصر، آخِره رَاء، وَمن طَرِيق عَليّ بن أبي طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس: أَن اسْم الْجِنّ: صَخْر، وَمن طَرِيق السّديّ كَذَلِك. انْتهى.
قلت: فِي هَذَا نظر من وُجُوه: الأول: أَنه يبعد من سُلَيْمَان أَن يناول خَاتمه لغيره ليراه مَعَ علمه أَن ملكه قَائِم بِهِ. وَالثَّانِي: لَا يَلِيق أَن يقْعد شَيْطَان على كرْسِي نَبِي مُرْسل الَّذِي أعطي مَا لَا يعْطى غَيره من الْملك الْعَظِيم. وَالثَّالِث: أَن آصف، بِالْفَاءِ فِي آخِره: هُوَ معلم سُلَيْمَان وكاتبه فِي أَيَّام ملكه، وَالَّذِي أَظن أَن الصَّحِيح أَن سُلَيْمَان لما افْتتن بِسَبَب ابْنة ملك صيدون وَاصْطفى ابْنة ملكهَا لنَفسِهِ وأحبها صورت فِي بَيتهَا صُورَة أَبِيهَا، وَكَانَ سُلَيْمَان، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، إِذا خرج من بَيتهَا كَانَت هِيَ وجواريها يعْبدُونَ هَذِه الصُّورَة حَتَّى أَتَى على ذَلِك أَرْبَعُونَ يَوْمًا، وَبلغ ذَلِك آصف بن برخياء فعتب على سُلَيْمَان، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، بِسَبَب ذَلِك، فَعِنْدَ ذَلِك سقط الْخَاتم من يَده، وَكَانَ كلما أَعَادَهُ كَانَ يسْقط، فَقَالَ لَهُ آصف: إِنَّك مفتون، ففر إِلَى الله تَائِبًا من ذَلِك وَأَنا أقوم مقامك وأسير فِي عِيَالك وَأهل بَيْتك بسيرك إِلَى أَن يَتُوب الله عَلَيْك ويردك إِلَى ملكك، ففر سُلَيْمَان هَارِبا إِلَى الله تَعَالَى، وَأخذ آصف الْخَاتم فَوَضعه فِي يَده فَثَبت وَغَابَ مُدَّة أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثمَّ أَن الله تَعَالَى لما قبل تَوْبَته رَجَعَ إِلَى منزله فَرد الله إِلَيْهِ ملكه وَأعَاد الْخَاتم فِي يَده. وَقيل: المُرَاد من الْجَسَد ابْنه، وَذَلِكَ أَنه لما ولد لَهُ قَالَت الشَّيَاطِين: نَقْتُلهُ وإلاَّ لَا نَعِيش مَعَه بعده، وَلما علم سُلَيْمَان ذَلِك أَمر السَّحَاب حَتَّى حملت ابْنه وعدى فِي السَّحَاب خوفًا من مضرَّة الشَّيَاطِين، فَعَاتَبَهُ الله لذَلِك، وَمَات الْوَلَد فَألْقى مَيتا على كرسيه فَهُوَ الْجَسَد الَّذِي قَالَ الله تَعَالَى: {وألقينا على كرسيه جسداً} (ص: 43) . وَهَذَا هُوَ الْأَنْسَب والأليق من غَيره، وَيُؤَيِّدهُ مَا قَالَه الْخَلِيل: لَا يُقَال الْجَسَد لغير الْإِنْسَان من خلق الأَرْض، وَقَالَ ابْن إِسْحَاق: وَكَانَ الْخَاتم من ياقوتة خضراء أَتَاهُ بهَا جِبْرِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، من الْجنَّة مَكْتُوب عَلَيْهَا: لَا إلاه إلاَّ الله مُحَمَّد رَسُول الله، وَهُوَ الْخَاتم الَّذِي ألبسهُ الله آدم فِي الْجنَّة.
رُخَاءً طَيِّبةً حَيْثُ أصابَ حَيْثُ شَاءَ
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {فسخرنا لَهُ الرّيح تجْرِي بأَمْره رخاء} (ص: 63) . وَفسّر رخاء بقوله: طيبَة، ويروى طيبا، بالتذكير، وَفسّر قَوْله: حَيْثُ أصَاب، بقوله: حَيْثُ شَاءَ، بلغَة حِمْيَر.
فامْنُنْ أعْطِ بِغَيْرِ حِسابٍ بِغَيْرِ حَرَجٍ
أول الْآيَة: {هَذَا عطاؤنا فَامْنُنْ أَو أمسك بِغَيْر حِسَاب} (ص: 93) . وَفسّر قَوْله: فَامْنُنْ، بقوله: أعْط، وَالْعرب تَقول: منَّ عَليّ برغيف، أَي: أعطانيه، وَفسّر قَوْله: بِغَيْر حِسَاب، بقوله: بِغَيْر حرج، وَقَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ. رَحمَه الله: إِن الله لم يُعْط أحد أعطية إلاَّ جعل فِيهَا حسابا إلاَّ سُلَيْمَان، فَإِن الله أعطَاهُ عَطاء هَنِيئًا، فَقَالَ: هَذَا عطاؤنا فَامْنُنْ أَو أمسك بِغَيْر حِسَاب، قَالَ: إِن أعطي أجر، وَإِن لم يُعْط