لَا يحْتَاج إِلَى ذَلِك، بل اللَّام هُنَا بِمَعْنى: عِنْد، كَقَوْلِهِم: كتبته لخمس خلون، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ البُخَارِيّ عَن مَالك عَن المَقْبُري فِي الرقَاق بِلَفْظ: من كَانَت عِنْده مظْلمَة لِأَخِيهِ ... وَالْأَحَادِيث يُفَسر بَعْضهَا بَعْضًا. قَوْله: (مظْلمَة) ، قَالَ ابْن مَالك: مظْلمَة، بِفَتْح اللَّام وَكسرهَا، وَالْكَسْر أشهر، وَقد رُوِيَ بِالضَّمِّ أَيْضا. وَفِي (التَّوْضِيح) : قَالَ الْقَزاز بِضَم اللَّام وَكسرهَا، وَفِي (أدب الْكَاتِب) لِابْنِ قُتَيْبَة بِفَتْح اللَّام، وَنقل ابْن التِّين عَن ابْن قُتَيْبَة فتح اللَّام وَكسرهَا. قَالَ: وَضبط عَن (الصِّحَاح) ضمهَا، وَهُوَ خطأ. قَوْله: (من عرضه) ، بِكَسْر الْعين، وَعرض الرجل مَوضِع الْمَدْح والذم مِنْهُ، سَوَاء كَانَ فِي نَفسه أَو فِي سلفه أَو من يلْزمه أمره، وَقيل: هُوَ جَانِبه الَّذِي يصونه من نَفسه وحسبه ويحامي عَنهُ أَن ينتقص أَو يثلب. وَقَالَ ابْن قُتَيْبَة: عرض الرجل نَفسه وبدنه لَا غير. قَوْله: (أَو شَيْء) ، أَي: من الْأَشْيَاء، وَهُوَ من عطف الْعَام على الْخَاص، فَيدْخل فِيهِ المَال بأصنافه والجراحات حَتَّى اللَّطْمَة وَنَحْوهَا، وَفِي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ: من عرض أَو مَال. قَوْله: (فليتحلله) ، قَالَ الْخطابِيّ: مَعْنَاهُ: يستوهبه وَيقطع دَعْوَاهُ عَنهُ، لِأَن مَا حرم الله من الْغَيْبَة لَا يُمكن تَحْلِيله، وَجَاء رجل إِلَى ابْن سِيرِين، فَقَالَ: اجْعَلنِي فِي حل فقد اغتبتك، فَقَالَ: إِنِّي لَا أحل مَا حرم الله تَعَالَى، وَلَكِن مَا كَانَ من قبلنَا فَأَنت فِي حل، وَيُقَال: معنى: فليتحلله إِذا سَأَلَهُ: أَن يَجعله فِي حل، يُقَال: تحللته واستحللته. قَوْله: (الْيَوْم) ، نصب على الظّرْف أَرَادَ بِهِ فِي الدُّنْيَا. قَوْله: (قبل أَن لَا يكون دِينَار وَلَا دِرْهَم) ، يَعْنِي: يَوْم الْقِيَامَة. قَوْله: (إِن كَانَ لَهُ عمل صَالح) إِلَى آخِره، معنى أَخذ الْحَسَنَات والسيئات أَن يَجْعَل ثَوَابهَا لصَاحب الْمظْلمَة، وَيجْعَل على الظَّالِم عُقُوبَة سيئاته. قَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: مَا التَّوْفِيق بَينه وَبَين قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تزر وَازِرَة وزر أُخْرَى} (الْأَنْعَام: 461 والإسراء: 51 وفاطر: 81 وَالزمر: 7) . قلت: لَا تعَارض بَينهمَا لِأَنَّهُ إِنَّمَا يُعَاقب بِسَبَب فعله وظلمه، وَلم يُعَاقب بِغَيْر جِنَايَة مِنْهُ، لِأَنَّهُ لما تَوَجَّهت عَلَيْهِ حُقُوق للْغُرَمَاء دفعت إِلَيْهِم حَسَنَاته وَلما لم يبْق مِنْهَا بَقِيَّة، قوبل على حسب مَا اقْتَضَاهُ عدل الله تَعَالَى فِي عباده، فَأَخَذُوهَا من سيئاته فَعُوقِبَ بهَا. انْتهى. قلت فِيهِ: مَا فِيهِ يعلم بِالتَّأَمُّلِ.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: قَامَ الْإِجْمَاع على أَنه إِذا بَين مظلمته عَلَيْهِ فأبراه فَهُوَ نَافِذ، وَاخْتلفُوا فِيمَن بَينهمَا مُلَابسَة أَو مُعَاملَة ثمَّ حلل بعضهما بَعْضًا من كل مَا جرى بَينهمَا من ذل، فَقَالَ قوم: إِن ذَلِك بَرَاءَة لَهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة، وَإِن لم يبين مِقْدَاره وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّمَا تصح الْبَرَاءَة إِذا بَين لَهُ وَعرف مَاله عِنْده أَو قَارب ذَلِك بِمَا لَا مشاحة فِي ذكره، وَهَذَا الحَدِيث حجَّة لهَذَا، لِأَن قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: {أخذت مِنْهُ بِقدر مظلمته) ، يدل أَنه يجب أَن يكون مَعْلُوم الْقدر مشاراً إِلَيْهِ، وَكَانَ ابْن الْمسيب لَا يحلل أحدا، وَكَانَ ابْن يسَار يحلل من الْعرض وَالْمَال، وَقَالَ مَالك: أما المَال فَنعم، وَأما من الْعرض: {فَإِنَّمَا السَّبِيل على الَّذين يظْلمُونَ النَّاس} (الشورى: 24) . وَقَالَ الدَّاودِيّ: أَحسب مَالِكًا أَرَادَ: إِن أصَاب من عرض رجل لم يجز لوَارِثه أَن يحلله. وَقَالَ ابْن التِّين: وَأرَاهُ خلافًا لقَوْل مَالك، لِأَنَّهُ قَالَ: إِن مَاتَ وَلَا وَفَاء عِنْده، فَالْأَفْضَل أَن يحلله، وَأما من ظلم أَو اغتاب فَلَا، وَذكر الْآيَة، وَكَانَ بَعضهم يحلل من عرضه ويتأول الْحَسَنَة بِعشر أَمْثَالهَا، وَكَانَ الْقَاسِم يحلل من ظلمه وَقَالَ الْخطابِيّ: إِذا اغتاب رجل رجلا فَإِن كَانَ بلغ القَوْل مِنْهُ ذَلِك فَلَا بُد أَن يسْتَحل، وَإِن لم يبلغهُ اسْتغْفر الله وَلَا يُخبرهُ، وَأما التَّحَلُّل فِي المَال فَإِنَّمَا يَصح ذَلِك فِي أَمر مَعْلُوم، وَقَالَ بعض أهل الْعلم: إِنَّمَا يَصح ذَلِك فِي الْمَنَافِع الَّتِي هِيَ أَعْرَاض، مثل أَن يكون قد غصبه دَارا فسكنها، أَو دَابَّة فركبها، أَو ثوبا فلبسه أَو يكون أعياناً فَتلفت، فَإِذا تحلل مِنْهَا صَحَّ التَّحَلُّل، فَإِن كَانَت الدَّار قَائِمَة وَالدَّرَاهِم فِي يَده حَاصِلَة لم يَصح التَّحَلُّل مِنْهَا إلاَّ أَن يهب أعيانها مِنْهُ، فَتكون هبة مستأنفة.
قَالَ أَبُو عبْدِ الله قَالَ اسْماعِيلُ بنُ أبي أُوَيْسٍ إنَّما سُمِّي الْمَقْبُرِيُّ لِأَنَّهُ كانَ نَزَلَ ناحِيَةَ الْمَقابِرِ
أَبُو عبد الله هُوَ البُخَارِيّ، وَإِسْمَاعِيل بن أبي أويس من شُيُوخه، وَاسم أبي أويس عبد الله الأصبحي الْمدنِي ابْن أُخْت مَالك بن أنس قَوْله: (إِنَّمَا سمى) ، أَي: سعيد، الْمَذْكُور فِي سَنَد الحَدِيث: المَقْبُري لنزوله نَاحيَة الْمَقَابِر بِالْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّة. وَقَوله: (قَالَ أَبُو عبد الله) إِلَى آخِره، إِنَّمَا يثبت فِي رِوَايَة الْكشميهني وَحده.
قَالَ أبُو عبد الله وسَعِيدٌ المَقْبُرِيُّ هُوَ مَوْلاى بَنِي ليْثٍ وهْو سَعيدُ بنُ أبي سَعِيدٍ وَاسم ابي سعيد كَيْسَانُ
هَذَا أَيْضا فِي رِوَايَة الْكشميهني وَحده، وَأَبُو عبد الله هُوَ البُخَارِيّ، وَكَانَ اسْم أبي سعيد كيسَان، كَانَ مكَاتبا لامْرَأَة من أهل الْمَدِينَة من بني لَيْث بن بكر بن عبد مَنَاة بن كنَانَة، وكيسان روى عَن عمر بن الْخطاب، وَعلي بن أبي طَالب وَأبي هُرَيْرَة وَأبي سعيد