اسْتأذَنَ رَبَّهُ فِي الزَّرْعِ فَقَالَ لَهُ ألَسْتَ فِيما شِئْتَ قَالَ بَلى ولَكِنِّي أحِبُّ أنْ أزْرَعَ قَالَ فَبَذَرَ فبَادَرَ الطَّرْفَ نباتُهُ واسْتوَاؤُهُ واسْتِحْصَادُهُ فكَانَ أمْثال الجِبالِ فيَقُولُ الله تَعَالَى دُونَكَ يَا ابْنَ آدَمَ فإنَّهُ لاَ يُشْبِعُكَ شيءٌ فَقَالَ الأعْرَابِيُّ وَالله لَا تَجِدُهُ إلاَّ قُرَشِيَّاً أوْ أنْصَاريَّاً فإنَّهُمْ أصْحابُ زَرْعٍ وأمَّا نَحْنُ فلَسْنَا بأصْحَابِ زَرْعٍ فضَحِكَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. (الحَدِيث 8432 طرفه فِي: 9157) .
وَجه إِدْخَال هَذَا الحَدِيث فِي هَذَا الْبَاب يُمكن أَن يكون فِي قَوْله: فَإِنَّهُم أَصْحَاب زرع مَعَ التَّنْبِيه على أَن أَحَادِيث النَّهْي عَن كِرَاء الأَرْض إِنَّمَا هُوَ نهي تَنْزِيه لَا نهي تَحْرِيم، لِأَن الزَّرْع لَو لم يكن من الْأُمُور الَّتِي يحرض فِيهَا بالاستمرار عَلَيْهِ لما تمنى الرجل الْمَذْكُور فِيهِ الزَّرْع فِي الْجنَّة مَعَ عدم الِاحْتِيَاج إِلَيْهِ فِيهَا.
ذكر رِجَاله وهم سَبْعَة: الأول: مُحَمَّد بن سِنَان، بِكَسْر السِّين الْمُهْملَة وَتَخْفِيف النُّون وَفِي آخِره نون أَيْضا، وَقد تقدم فِي أول الْعلم. الثَّانِي: فليح، بِضَم الْفَاء وَفتح اللَّام وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره حاء مُهْملَة: ابْن سُلَيْمَان، وَقد تقدم فِي أول الْعلم. الثَّالِث: هِلَال بن عَليّ، وَهُوَ هِلَال بن أبي مَيْمُونَة، وَيُقَال: هِلَال بن أبي، وَيُقَال: هِلَال بن أُسَامَة. الرَّابِع: عبد الله بن مُحَمَّد بن عبد الله الْمَعْرُوف بالمسندي. الْخَامِس: أَبُو عَامر عبد الْملك بن عَمْرو بن قيس الْعَقدي. السَّادِس: عَطاء بن يسَار ضد الْيَمين تقدم فِي الْإِيمَان. السَّابِع: أَبُو هُرَيْرَة.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي سِتَّة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن فليحاً وهلالاً وَعَطَاء مدنيون، وَأَن عبد الْملك بَصرِي وَأَن شَيْخه عبد الله بن مُحَمَّد البُخَارِيّ، وَأَنه من أَفْرَاده، وَكَذَلِكَ مُحَمَّد بن سِنَان من أَفْرَاده. وَفِيه: أَنه سَاق الحَدِيث على لفظ الْإِسْنَاد الثَّانِي، وَفِي كتاب التَّوْحِيد على لفظ مُحَمَّد بن سِنَان.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي التَّوْحِيد عَن مُحَمَّد بن سِنَان وَهُوَ من أَفْرَاده.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (وَعِنْده رجل) ، جملَة حَالية. قَوْله: (من أهل الْبَادِيَة) ، وَفِي رِوَايَة: من أهل البدو، وهما من غير همز، لِأَنَّهُ من: بدا الرجل يَبْدُو، إِذا خرج إِلَى الْبَادِيَة، وَالِاسْم: البداوة، بِفَتْح الْبَاء وَكسرهَا، هَذَا هُوَ الْمَشْهُور، وَحكى: بَدَأَ بِالْهَمْز يبْدَأ، وَهُوَ قَلِيل. قَوْله: (أَن رجلا) ، بِفَتْح همزَة: أَن، لِأَنَّهُ فِي مَحل المفعولية. قَوْله: (اسْتَأْذن ربه فِي الزَّرْع) أَي: فِي مُبَاشرَة الزَّرْع، يَعْنِي: سَأَلَ الله تَعَالَى أَن يزرع. قَوْله: (أَلَسْت فِيمَا شِئْت؟) وَفِي رِوَايَة مُحَمَّد بن سِنَان: أولست فِيمَا شِئْت، بِزِيَادَة الْوَاو، وَمعنى هَذَا اسْتِفْهَام على سَبِيل التَّقْرِير، يَعْنِي: أولست كَائِنا فِيمَا شِئْت من التشهيات، قَالَ: بلَى، الْأَمر كَذَلِك، وَلَكِن أحب الزَّرْع. قَوْله: (فبذر) ، يَعْنِي ألقِي الْبذر، وَفِيه حذف تَقْدِيره: فَأذن لَهُ بالزرع فَعِنْدَ ذَلِك قَامَ وَرمى الْبذر على أَرض الْجنَّة فنبت فِي الْحَال واستوى، وَأدْركَ حَصَاده فَكَانَ كل حَبَّة مثل الْحَبل. قَوْله: (فبادر) ، وَفِي رِوَايَة مُحَمَّد بن سِنَان: فأسرع فتبادر. قَوْله: (الطّرف) ، مَنْصُوب بقوله: فبادر، و: نَبَاته، بِالرَّفْع فَاعله. قَالَ ابْن قرقول: الطّرف: بِفَتْح الطَّاء وَسُكُون الرَّاء: هُوَ امتداد لحظ الْإِنْسَان حَيْثُ أدْرك. وَقيل: طرف الْعين، أَي: حركتها، أَي: تحرّك أجفانها. قَوْله: (واستحصاده) ، من الحصد، وَهُوَ قلع الزَّرْع، وَالْمعْنَى: أَنه لما بزر لم يكن بَين ذَلِك وَبَين اسْتِوَاء الزَّرْع ونجاز أمره كُله من الْقلع والحصد والتذرية وَالْجمع إلاَّ قدر لمحة الْبَصَر. قَوْله: (دُونك) ، بِالنّصب على الإغراء، أَي: خُذْهُ. قَوْله: (فَإِنَّهُ) ، أَي: فَإِن الشَّأْن لَا يشبعك شَيْء، من الإشباع، وَفِي رِوَايَة مُحَمَّد بن سِنَان: لَا يسعك، بِفَتْح الْيَاء وَالسِّين الْمُهْملَة وَضم الْعين، وَله معنى صَحِيح. قَوْله: (فَقَالَ الْأَعرَابِي) ، هُوَ ذَلِك الرجل الَّذِي كَانَ عِنْده من أهل الْبَادِيَة.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: أَن فِي الْجنَّة يُوجد كل مَا تشْتَهي الْأَنْفس من أَعمال الدُّنْيَا ولذاتها، قَالَ الله تَعَالَى: {وفيهَا مَا تشتهيه الْأَنْفس وتلذ الْأَعْين} (الزخرف: 17) . وَفِيه: أَن من لزم طَريقَة أَو حَالَة من الْخَيْر أَو الشَّرّ أَنه يجوز وَصفه بهَا وَلَا حرج على واصفه. وَفِيه: مَا جبل الله نفوس بني آدم عَلَيْهِ من الاستكثار وَالرَّغْبَة فِي مَتَاع الدُّنْيَا إلاَّ أَن الله تَعَالَى أغْنى أهل الْجنَّة عَن نصب الدُّنْيَا وتعبها. وَفِيه: إِشَارَة إِلَى فضل القناعة وذم الشره. وَفِيه: الْإِخْبَار عَن الْأَمر الْمُحَقق الْآتِي بِلَفْظ الْمَاضِي، فَافْهَم.