لاشْتِرَاط النِّيَّة فِي الصَّوْم من اللَّيْل بِمَا أخرجه أَصْحَاب السّنَن من حَدِيث عبد الله بن عمر عَن أُخْته حَفْصَة: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (من لم يبيت الصّيام من اللَّيْل فَلَا صِيَام لَهُ) ، لفظ النَّسَائِيّ، وَلأبي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ: (من لم يجمع الصّيام قبل الْفجْر فَلَا صِيَام لَهُ) ، وَاخْتلف فِي رَفعه وَوَقفه، وَرجح التِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ الْمَوْقُوف بعد أَن أطنب فِي تَخْرِيج طرقه، وَحكى التِّرْمِذِيّ فِي الْعِلَل عَن البُخَارِيّ تَرْجِيح وَقفه، وَعمل بِظَاهِر الْإِسْنَاد جمَاعَة من الْأَئِمَّة فصححوا الحَدِيث الْمَذْكُور مِنْهُم ابْن خُزَيْمَة وَابْن حبَان وَالْحكم وَابْن حزم، وروى لَهُ الدَّارَقُطْنِيّ طَرِيقا أُخْرَى، وَقَالَ: رجالها ثِقَات، وَأبْعد من خصّه من الْحَنَفِيَّة بصيام الْقَضَاء وَالنّذر، وَأبْعد من ذَلِك تَفْرِقَة الطَّحَاوِيّ بَين صَوْم الْفَرْض إِذا كَانَ فِي يَوْم بِعَيْنِه كعاشوراء، فتجزي النِّيَّة فِي النَّهَار أَولا فِي يَوْم بِعَيْنِه كرمضان، فَلَا يَجْزِي، إلاَّ بنية من اللَّيْل، وَبَين صَوْم التَّطَوُّع فيجزي فِي اللَّيْل، وَفِي النَّهَار، وَقد تعقبه إِمَام الْحَرَمَيْنِ بِأَنَّهُ كَلَام غث لَا أصل لَهُ. انْتهى. قلت: قَالَ التِّرْمِذِيّ: حَدِيث حَفْصَة حَدِيث لَا نعرفه مَرْفُوعا إلاَّ من هَذَا الْوَجْه، يَعْنِي من الْوَجْه الَّذِي رَوَاهُ عَن إِسْحَاق بن مَنْصُور عَن ابْن أبي مَرْيَم عَن يحيى بن أَيُّوب عَن عبد الله بن أبي بكر عَن ابْن شهَاب عَن سَالم بن عبد الله عَن أَبِيه عَن حَفْصَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (من لم يجمع الصيم قبل الْفجْر فَلَا صِيَام لَهُ) ، وَفِي بعض النّسخ: تفرد بِهِ يحيى بن أَيُّوب، قَالَ: وَقد رُوِيَ عَن نَافِع عَن ابْن عمر قَوْله وَهُوَ أصح، وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ عَن أَحْمد بن الْأَزْهَر عَن عبد الرَّزَّاق عَن ابْن جريج عَن ابْن شهَاب، وَقَالَ النَّسَائِيّ: وَرِوَايَة حَمْزَة الصَّوَاب عندنَا مَوْقُوف وَلم يَصح رَفعه، لِأَن يحيى بن أَيُّوب لَيْسَ بِالْقَوِيّ. وَحَدِيث ابْن جريج عَن الزُّهْرِيّ غير مَحْفُوظ. وَالله أعلم.
وَقَالَ شَيخنَا: وَأما الْمَوْقُوف الَّذِي ذكر التِّرْمِذِيّ أَنه أصح فقد رَوَاهُ مَالك فِي (الْمُوَطَّأ) كَذَلِك عَن نَافِع عَن ان عمر قَوْله: وَمن طَرِيقه رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ أَيْضا من رِوَايَة عبيد الله بن عمر عَن نَافِع عَن ابْن عمر، قَوْله: وَقد جَاءَ من طرق مَوْقُوفا على حَفْصَة، رَوَاهُ النَّسَائِيّ من رِوَايَة عبيد الله بن عمر عَن الزُّهْرِيّ عَن سَالم عَن أَبِيه عَن حَفْصَة، وَمن رِوَايَة يُونُس وَمعمر وَابْن عُيَيْنَة عَن الزُّهْرِيّ عَن حَمْزَة بن عبد الله بن عمر عَن نَافِع عَن أَبِيه عَن حَفْصَة. وَمن رِوَايَة ابْن عُيَيْنَة عَن الزُّهْرِيّ عَن حَمْزَة عَن حَفْصَة لم يذكر ابْن عمر، وَمن طَرِيق مَالك عَن ابْن شهَاب عَن عَائِشَة وَحَفْصَة، رَضِي الله تعال عَنْهُمَا، قَوْلهمَا مُرْسلا.
وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم: سَأَلت أبي عِنْد حَدِيث رَوَاهُ إِسْحَاق بن حَازِم عَن عبد الله ابْن أبي بكر عَن سَالم عَن أَبِيه عَن حَفْصَة مَرْفُوعا: (لَا صِيَام لمن لم ينومن اللَّيْل) ، وَرَوَاهُ يحيى بن أَيُّوب عَن عبد الله بن أبي بكر عَن الزُّهْرِيّ عَن سَالم عَن أَبِيه عَن حَفْصَة مَرْفُوعا، قلت لَهُ: أَيهمَا أصح؟ قَالَ: لَا أَدْرِي، لِأَن عبد الله بن أبي بكر أدْرك سالما وروى عَنهُ، وَلَا أَدْرِي سمع هَذَا الحَدِيث مِنْهُ أَو سَمعه من الزُّهْرِيّ عَن سَالم؟ وَقد رُوِيَ هَذَا عَن الزُّهْرِيّ عَن حَمْزَة بن عبد الله بن عمر عَن حَفْصَة قَوْلهَا، وَهُوَ عِنْدِي أشبه. وَقَالَ أَبُو عمر: فِي إِسْنَاد هَذَا الحَدِيث اضْطِرَاب. وَفِيه يحيى بن أَيُّوب الغافقي، قَالَ النَّسَائِيّ: لَيْسَ بِالْقَوِيّ، وَالصَّوَاب فِي: مَوْقُوف، وَلذَلِك لم يُخرجهُ الشَّيْخَانِ. وَقَالَ أَبُو حَاتِم الرَّازِيّ: لَا يحْتَج بِهِ، وَذكره أَبُو الْفرج فِي الضُّعَفَاء والمتروكين. وَقَالَ أَحْمد هُوَ سيء الْحِفْظ وهم يردون الحَدِيث بِأَقَلّ من هَذَا، وَالْجرْح مقدم على التَّعْدِيل، وَلَا يلْتَفت إِلَى قَول الدَّارَقُطْنِيّ، وَهُوَ من الثِّقَات الرفعاء.
وَأما قَول هَذَا الْقَائِل: وَأبْعد من خصّه من الْحَنَفِيَّة بصيام الْقَضَاء وَالنّذر، فَكَلَام سَاقِط لَا طائل تَحْتَهُ، لِأَن من لم يخص هَذَا الحَدِيث بصيام الْقَضَاء وَالنّذر الْمُطلق، وَصَوْم الْكَفَّارَات يلْزم مِنْهُ النّسخ لمُطلق الْكتاب بِخَبَر الْوَاحِد، فَلَا يجوز ذَلِك، بَيَانه أَن قَوْله تَعَالَى: {} إِلَى قَوْله: {} (الْبَقَرَة: 781) مُبِيح للْأَكْل وَالشرب وَالْجِمَاع فِي ليَالِي رَمَضَان إِلَى طُلُوع الْفجْر، ثمَّ الْأَمر بالصيام عَنْهَا بعد طُلُوع الْفجْر مُتَأَخّر عَنهُ، لِأَن كلمة: ثمَّ، للتعقيب مَعَ التَّرَاخِي، فَكَانَ هَذَا أمرا بالصيام متراخياً عَن أول النَّهَار، وَالْأَمر بِالصَّوْمِ أَمر بِالنِّيَّةِ إِذْ لَا صَوْم شرعا بِدُونِ النِّيَّة، فَكَانَ أمرا بِالصَّوْمِ بنية مُتَأَخِّرَة عَن أول النَّهَار، وَقد أَتَى بِهِ، فَيخرج عَن الْعهْدَة.
وَفِيه: دلَالَة أَن الْإِمْسَاك فِي أول النَّهَار يَقع صوما، وُجدت فِيهِ النِّيَّة أَو لم تُوجد، لِأَن إتْمَام الشَّيْء يقتضى سَابِقَة وجود بعض شَيْء مِنْهُ، فَإِذا شرطنا النِّيَّة فِي أول اللَّيْل بِخَبَر الْوَاحِد يكون نسخا لمُطلق الْكتاب، فَلَا يجوز ذَلِك، فحينئذٍ يحمل ذَلِك على الصّيام