هَهُنَا، إِنَّمَا ذكر كتاب الزَّكَاة عقيب كتاب الصَّلَاة من حَيْثُ إِن الزَّكَاة ثَالِثَة الْإِيمَان وثانية الصَّلَاة فِي الْكتاب وَالسّنة. أما الْكتاب فَقَوله تَعَالَى: {الَّذين يُؤمنُونَ بِالْغَيْبِ ويقيمون الصَّلَاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفقُونَ} (الْبَقَرَة: 3) . وَأما السّنة فَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (بني الْإِسْلَام على خمس. .) الحَدِيث، وَهِي لُغَة: عبارَة عَن النَّمَاء، يُقَال: زكا الزَّرْع، إِذا نما، وَقيل: عَن الطَّهَارَة. قَالَ الله تَعَالَى: {قد أَفْلح من تزكّى} (الْأَعْلَى: 41) . أَي: تطهر. قلت: الزَّكَاة اسْم للتزكية وَلَيْسَت بمصدر، وَقَالَ نفطويه: سميت بذلك لِأَن مؤديها يتزكى إِلَى الله أَي: يتَقرَّب إِلَيْهِ بِصَالح الْعَمَل وكل من تقرب إِلَى الله بِصَالح عمل فقد تزكّى إِلَيْهِ. وَقيل: سميت زَكَاة للبركة الَّتِي تظهر فِي المَال بعْدهَا. وَفِي (الْمُحكم) : الزَّكَاة ممدودا: النَّمَاء والريع، زكا يزكو زكاء وزكوا وأزكى والزكاء: مَا أخرجته الأَرْض من الثَّمر، وَالزَّكَاة الصّلاح، وَرجل زكي من قوم أزكياء، وَقد زكى زكاء، وَالزَّكَاة مَا أخرجته من مَالك لتطهره. وَقَالَ أَبُو عَليّ: الزَّكَاة صفوة الشَّيْء. وَفِي (الْجَامِع) : زكتْ النَّفَقَة: أَي بورك فِيهَا. وَقَالَ ابْن الْعَرَبِيّ فِي كِتَابه (المدارك) : تطلق الزَّكَاة على الصَّدَقَة أَيْضا وعَلى الْحق وَالنَّفقَة وَالْعَفو عِنْد اللغويين، وَهِي شرعا: إيتَاء جُزْء من النّصاب الحولي إِلَى فَقير غير هاشمي. ثمَّ لَهَا ركن وَسبب وَشرط وَحكم وَحِكْمَة. فركنها: جعلهَا الله تَعَالَى بالإخلاص، وسببها: المَال، وَشَرطهَا نَوْعَانِ: شَرط السَّبَب وَشرط من تجب عَلَيْهِ، فَالْأول: ملك النّصاب الحولي، وَالثَّانِي: الْعقل وَالْبُلُوغ وَالْحريَّة، وَحكمهَا: سُقُوط الْوَاجِب فِي الدُّنْيَا وَحُصُول الثَّوَاب فِي الْآخِرَة، وحكمتها كَثِيرَة. مِنْهَا: التطهر من أدناس الذُّنُوب وَالْبخل، وَمِنْهَا: ارْتِفَاع الدرجَة والقربة، وَمِنْهَا: الْإِحْسَان إِلَى المحتاجين، وَمِنْهَا: استرقاق الْأَحْرَار فَإِن الْإِنْسَان عبيد الْإِحْسَان، وَقَالَ الْقشيرِي على قَول من قَالَ: النَّمَاء، أَي: إخْرَاجهَا يكون سَببا للنماء كَمَا صَحَّ: (مَا نقص مَال من صَدَقَة) ، وَوجه الدَّلِيل مِنْهُ أَن النَّقْص محسوس بِإِخْرَاج الْقدر الْوَاجِب، وَلَا يكون غير نَاقص إلاَّ بِزِيَادَة تبلغه إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ من الْمَعْنيين جَمِيعًا الْمَعْنَوِيّ والحسي فِي الزِّيَادَة، أَو بِمَعْنى تَضْعِيف أجورها كَمَا جَاءَ: (إِن الله يُربي الصَّدَقَة حَتَّى تكون كالجبل) ، وَمن قَالَ: إِنَّهَا طَهَارَة فللنفس من رذيلة الْبُخْل، أَو لِأَنَّهَا تطهر من الذُّنُوب، وَهَذَا الْحق أثْبته الشَّارِع لمصْلحَة الدَّافِع والآخذ مَعًا، أما الدَّافِع فلتطهيره وتضعيف أجره، وَأما الْآخِذ فلسد خلته.
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان وجوب الزَّكَاة أَي: فرضيتها، وَقد يذكر الْوُجُوب وَيُرَاد بِهِ الْفَرْض، لِأَنَّهُ أَرَادَ بِالْوُجُوب الثُّبُوت والتحقق. قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: وَجَبت وَجَبت، أَي: ثبتَتْ وتحققت، أَو ذكر الْوُجُوب لأجل الْمَقَادِير فَإِنَّهَا ثبتَتْ بأخبار الْآحَاد، أَو لِأَنَّهُ لَو قَالَ: فرض الزَّكَاة، لتبادر الذِّهْن إِلَى الَّذِي هُوَ التَّقْدِير، إِذْ التَّقْدِير هُوَ الْغَالِب فِي بَاب الزَّكَاة لِأَنَّهَا جُزْء مُقَدّر من جَمِيع أَصْنَاف الْأَمْوَال. قلت: لَا شكّ أَن الْكتاب مُجمل وَالْحكم فِيهِ التَّوَقُّف إِلَى أَن يَأْتِي الْبَيَان، وَالْبَيَان فوض إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَالنَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بيَّن ذَلِك فِي سَائِر الْأَمْوَال، فَيكون أصل الزَّكَاة ثَابتا بِدَلِيل قَطْعِيّ، والمقدار بِالْحَدِيثِ، فَلَعَلَّ من أطلق على الزَّكَاة لفظ: الْوُجُوب، نظر إِلَى هَذَا الْمَعْنى.
وقَوْلِ الله تعَالى {وَأقِيمُوا الصَّلاةَ وآتُوا الزَّكَاةَ} (الْبَقَرَة: 34 و 38 و 011، النِّسَاء: 77، الْحَج: 87، النُّور: 65، المجادلة: 31، المزمل: 02) .
قَول الله، بِالْجَرِّ عطف على مَا قبله، وَأَشَارَ بِهِ إِلَى أَن فَرضِيَّة الزَّكَاة بِالْقُرْآنِ، لِأَن الله تَعَالَى أَمر بهَا بقوله: {وَآتوا الزَّكَاة} (الْبَقَرَة: 34، 38 و 011، النِّسَاء: 77، الْحَج: 87، النُّور: 65، المجادلة: 31، والمزمل: 02) . وَالْأَمر للْوُجُوب. وَقيل: هُوَ بِالرَّفْع مُبْتَدأ وَخَبره مَحْذُوف، أَي: هُوَ دَلِيل على مَا قُلْنَاهُ من الْوُجُوب. قلت: هَذَا لَيْسَ بِشَيْء لَا يخفى على الفطن، وَالْوَجْه مَا ذَكرْنَاهُ، قَالَ ابْن الْمُنْذر: انْعَقَد الْإِجْمَاع على فَرضِيَّة الزَّكَاة وَهِي الرُّكْن الثَّالِث، قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (بني الْإِسْلَام على خمس) وَفِيه قَالَ: (وإيتاء الزَّكَاة) ، وَقَالَ ابْن بطال: فَمن جحد وَاحِدَة من هَذِه الْخمس فَلَا يتم إِسْلَامه، أَلا ترى أَن أَبَا بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: لأقاتلن من فرق بَين الصَّلَاة وَالزَّكَاة، وَقَالَ ابْن الْأَثِير: من منعهَا مُنْكرا وُجُوبهَا فقد كفر إِلَّا أَن يكون حَدِيث عهد بِالْإِسْلَامِ وَلم يعلم وُجُوبهَا. وَقَالَ الْقشيرِي: من جَحدهَا كفر، وَأجْمع الْعلمَاء أَن مانعها تُؤْخَذ