ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (الرَّكْعَتَيْنِ اللَّتَيْنِ قبل الصُّبْح) أَي: قبل صَلَاة الصُّبْح وهما سنة صَلَاة الصُّبْح. قَوْله: (إِنِّي) ، بِكَسْر الْهمزَة. قَوْله: (لأقول) اللَّام فِيهِ للتَّأْكِيد. قَوْله: (بِأم الْقُرْآن) ، هَذَا فِي رِوَايَة الْحَمَوِيّ، وَفِي رِوَايَة غَيره: (بِأم الْكتاب) ، وَفِي رِوَايَة مَالك: (قَرَأَ بِأم الْقُرْآن أم لَا؟) وَأم الْقُرْآن: الْفَاتِحَة، سميت بِهِ لِأَن أم الشَّيْء أَصله، وَهِي مُشْتَمِلَة على كليات مَعَاني الْقُرْآن الثَّلَاث: مَا يتَعَلَّق بالمبدأ وَهُوَ الثَّنَاء على الله تَعَالَى، وبالمعاش وَهُوَ الْعِبَادَة، وبالمعاد وَهُوَ الْجَزَاء. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: لَيْسَ معنى قَول عَائِشَة: إِنِّي لأقول: هَل قَرَأَ بِأم الْقُرْآن؟ أَنَّهَا شكت فِي قِرَاءَته، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ أَنه كَانَ يُطِيل فِي النَّوَافِل، فَلَمَّا خفف فِي قِرَاءَة رَكْعَتي الْفجْر صَار كَأَنَّهُ لم يقْرَأ بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيرهمَا من الصَّلَوَات. قلت: كلمة: هَل، حرف مَوْضُوع لطلب التَّصْدِيق الإيجابي دون التصوري وَدون التَّصْدِيق السلبي، فَدلَّ هَذَا على أَنَّهَا مَا شكت فِي قِرَاءَته مُطلقًا، وتقييدها بِالْفَاتِحَةِ من أَيْن؟ وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى عَن قريب.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: الْمُبَالغَة فِي تَخْفيف رَكْعَتي الصُّبْح، وَلكنهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى عَادَته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من إطالته صَلَاة اللَّيْل، وَاخْتلف الْعلمَاء فِي الْقِرَاءَة فِي رَكْعَتي الْفجْر على أَرْبَعَة مَذَاهِب حَكَاهَا الطَّحَاوِيّ. أَحدهَا: لَا قِرَاءَة فيهمَا، كَمَا ذكرنَا فِي أول الْبَاب عَن جمَاعَة. الثَّانِي: يُخَفف الْقِرَاءَة فيهمَا بِأم الْقُرْآن خَاصَّة، رُوِيَ ذَلِك عَن عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ وَهُوَ مَشْهُور مَذْهَب مَالك. الثَّالِث: يُخَفف بِقِرَاءَة أم الْقُرْآن وَسورَة قَصِيرَة، رَوَاهُ ابْن الْقَاسِم عَن مَالك وَهُوَ قَول الشَّافِعِي. الرَّابِع: لَا بَأْس بتطويل الْقِرَاءَة فيهمَا، رُوِيَ ذَلِك عَن إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَمُجاهد، وَعَن أبي حنيفَة: رُبمَا قَرَأت فيهمَا حزبين من الْقُرْآن، وَهُوَ قَول أَصْحَابنَا. وَقَالَ شَيخنَا زين الدّين: الْمُسْتَحبّ قِرَاءَة سُورَة الْإِخْلَاص فِي رَكْعَتي الْفجْر، وَمِمَّنْ رُوِيَ عَنهُ ذَلِك من الصَّحَابَة: عبد الله بن مَسْعُود، وَمن التَّابِعين: سعيد بن جُبَير وَمُحَمّد بن سِيرِين وَعبد الرَّحْمَن بن يزِيد النَّخعِيّ وسُويد بن غَفلَة وغينم بن قيس، وَمن الْأَئِمَّة: الشَّافِعِي، فَإِنَّهُ نَص عَلَيْهِ فِي الْبُوَيْطِيّ وَقَالَ مَالك: أما أَنا فَلَا أَزِيد فيهمَا على أم الْقُرْآن فِي كل رَكْعَة رَوَاهُ عَنهُ ابْن الْقَاسِم، وروى ابْن وهب عَنهُ أَنه لَا يقْرَأ فيهمَا إلاَّ بِأم الْقُرْآن. وَحكى ابْن عبد الْبر عَن الشَّافِعِي أَنه قَالَ: لَا بَأْس أَن يقْرَأ مَعَ أم الْقُرْآن سُورَة قَصِيرَة. قَالَ: روى ابْن الْقَاسِم عَن مَالك أَيْضا مثله.
ثمَّ إِن الْحِكْمَة فِي تخفيفه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رَكْعَتي الْفجْر الْمُبَادرَة إِلَى صَلَاة الصُّبْح فِي أول الْوَقْت، وَبِه جزم صَاحب الْمُفْهم، وَيحْتَمل أَن يُرَاد بِهِ استفتاح صَلَاة النَّهَار بِرَكْعَتَيْنِ خفيفتين، كَمَا كَانَ يستفتح قيام اللَّيْل بِرَكْعَتَيْنِ خفيفتين، ليتأهب ويستعد للتفرغ للْفَرض أَو لقِيَام اللَّيْل الَّذِي هُوَ أفضل الصَّلَوَات بعد المكتوبات، كَمَا ثَبت فِي (صَحِيح مُسلم) وَخص بعض الْعلمَاء اسْتِحْبَاب التَّخْفِيف فِي رَكْعَتي الْفجْر بِمن لم يتَأَخَّر عَلَيْهِ بعض حزبه الَّذِي اعْتَادَ الْقيام بِهِ فِي اللَّيْل، فَإِن بَقِي عَلَيْهِ شَيْء قَرَأَ فِي رَكْعَتي الْفجْر، فروى ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) عَن الْحسن الْبَصْرِيّ قَالَ: لَا بَأْس أَن يُطِيل رَكْعَتي الْفجْر يقْرَأ فيهمَا من حزبه إِذا فَاتَهُ، وَعَن مُجَاهِد أَيْضا قَالَ: لَا بَأْس أَن يُطِيل رَكْعَتي الْفجْر. وَقَالَ الثَّوْريّ: إِن فَاتَهُ شَيْء من حزبه بِاللَّيْلِ فَلَا بَأْس أَن يقْرَأ فيهمَا وَيطول. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: رُبمَا قَرَأت فِي رَكْعَتي الْفجْر حزبي من اللَّيْل، وَقد ذَكرْنَاهُ عَن قريب، وروى ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) مُرْسلا من رِوَايَة سعيد بن جُبَير، قَالَ: (كَانَ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، رُبمَا أَطَالَ رَكْعَتي الْفجْر) وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ أَيْضا، وَفِي إِسْنَاده رجل من الْأَنْصَار لم يسم.
فَائِدَة: التَّطْوِيل فِي الصَّلَاة مرغب فِيهِ لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الحَدِيث الصَّحِيح (أفضل الصَّلَاة طول الْقُنُوت) ، وَلقَوْله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَيْضا فِي الصَّحِيح: (إِن طول صَلَاة الرجل سمة من فقهه) أَي: عَلامَة، وَلقَوْله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي الحَدِيث الصَّحِيح أَيْضا (إِذا صلى أحدكُم لنَفسِهِ فليطول مَا شَاءَ) إلاَّ أَنه قد اسْتثْنى من ذَلِك مَوَاضِع اسْتحبَّ الشَّارِع فِيهَا التَّخْفِيف: مِنْهَا: رَكعَتَا الْفجْر لما ذكرنَا. وَمِنْهَا: تَحِيَّة الْمَسْجِد إِذا دخل يَوْم الْجُمُعَة وَالْإِمَام يخْطب ليتفرغ لسَمَاع الْخطْبَة، وَهَذِه مُخْتَلف فِيهَا. وَمِنْهَا: استفتاح صَلَاة اللَّيْل بِرَكْعَتَيْنِ خفيفتين، وَذَلِكَ للتعجيل بِحل عقد الشَّيْطَان، فَإِن الْعقْدَة الثَّالِثَة تنْحَل بِصَلَاة رَكْعَتَيْنِ، فَلذَلِك أَمر بِهِ، وَأما فعله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ذَلِك فللتشريع ليقتدى بِهِ وإلاَّ فَهُوَ مَعْصُوم مَحْفُوظ من الشَّيْطَان، وَأما تَخْفيف الإِمَام فقد علله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بقوله: (فَإِن وَرَاءه السقيم والضعيف وَذَا الْحَاجة) ، وَالله تَعَالَى أعلم بِحَقِيقَة الْحَال، وَإِلَيْهِ الْمرجع والمآب.