البُخَارِيّ هَذَا الحَدِيث بِعَين هَذَا الْإِسْنَاد والمتن جَمِيعًا فِي: بَاب الصَّلَاة خلف النَّائِم، وَقد استقصينا الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
قَوْله: (فأوترت) الْفَاء فِيهِ تسمى: فَاء الفصيحة، فتقديره: فَقُمْت وتوضأت فأوترت.
أَي: هَذَا بَاب تَرْجَمته ليجعل إِلَى آخِره أَي: ليجعل الْمُصَلِّي آخر صلَاته بِاللَّيْلِ صَلَاة الْوتر.
899 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حدَّثنا يحْيَى بنُ سَعِيدٍ عنْ عُبَيْدِ الله قَالَ حدَّثني نافِعٌ عنْ عَبْدِ الله عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ اجْعَلُوا آخِرَ صَلاَتِكُمْ بِاللَّيْلِ وِتْرا.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة لِأَن التَّرْجَمَة مَأْخُوذَة مِنْهُ. وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة، وَيحيى بن سعيد الْقطَّان، وَعبيد الله ابْن حَفْص بن عَاصِم بن عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم أَيْضا فِي الصَّلَاة عَن زُهَيْر بن حَرْب وَمُحَمّد بن الْمثنى. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن أَحْمد بن حَنْبَل، وَفِي رِوَايَته بعد قَوْله: (وترا، فَإِن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كَانَ يَأْمر بذلك) .
وَيُسْتَفَاد مِنْهُ حكمان: الأول: اسْتِحْبَاب تَأْخِير الْوتر، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ. وَالثَّانِي: فِيهِ الدّلَالَة على وجوب الْوتر.
وَاخْتلف الْعلمَاء فِيهِ، فَقَالَ القَاضِي أَبُو الطّيب: إِن الْعلمَاء كَافَّة قَالَت: إِنَّه سنة، حَتَّى أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد، وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَحده: هُوَ وَاجِب وَلَيْسَ بِفَرْض. وَقَالَ أَبُو حَامِد فِي تَعْلِيقه: الْوتر سنة مُؤَكدَة لَيْسَ بِفَرْض وَلَا وَاجِب، وَبِه قَالَت الإئمة كلهَا إلاّ أَبَا حنيفَة. وَقَالَ بَعضهم: وَقد اسْتدلَّ بِهَذَا الحَدِيث بعض من قَالَ بِوُجُوبِهِ، وَتعقب بِأَن صَلَاة اللَّيْل لَيست وَاجِبَة ... إِلَى آخِره، وَبِأَن الأَصْل عدم الْوُجُوب حَتَّى يقوم دَلِيله. وَقَالَ الْكرْمَانِي أَيْضا مَا يشبه هَذَا. قلت: هَذَا كُله من آثَار التعصب، فَكيف يَقُول القَاضِي أَبُو الطّيب وَأَبُو حَامِد، وهما إمامان مشهوران، بِهَذَا الْكَلَام الَّذِي لَيْسَ بِصَحِيح وَلَا قريب من الصِّحَّة؟ وَأَبُو حنيفَة لم ينْفَرد بذلك، هَذَا القَاضِي أَبُو بكر بن الْعَرَبِيّ ذكر عَن سَحْنُون وَأصبغ بن الْفرج وُجُوبه، وَحكى ابْن حزم أَن مَالِكًا قَالَ: من تَركه أُدِّبَ، وَكَانَت جرحه فِي شَهَادَته، وَحَكَاهُ ابْن قدامَة فِي (الْمُغنِي) عَن أَحْمد، وَفِي (المُصَنّف) عَن مُجَاهِد بِسَنَد صَحِيح: هُوَ وَاجِب وَلم يكْتب، وَعَن ابْن عمر بِسَنَد صَحِيح: مَا أحب أَنِّي تركت الْوتر وَأَن لي حمر النعم، وَحكى ابْن بطال وُجُوبه عَن أهل الْقُرْآن عَن ابْن مَسْعُود وَحُذَيْفَة وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ، وَعَن يُوسُف بب خَالِد السَّمْتِي شيخ الشَّافِعِي وُجُوبه، وَحَكَاهُ ابْن أبي شيبَة أَيْضا عَن سعيد بن الْمسيب وَأبي عُبَيْدَة بن عبد الله بن مَسْعُود وَالضَّحَّاك. انْتهى.
فَإِذا كَانَ الْأَمر كَذَلِك، كَيفَ يجوز لأبي الطّيب وَلأبي حَامِد أَن يدعيا هَذِه الدَّعْوَى الْبَاطِلَة؟ فَهَذَا يدل على عدم اطلاعهما، فِيمَا ذكرنَا، فجهل الشَّخْص بالشَّيْء لَا يَنْفِي علم غَيره بِهِ.
وَقَول من ادّعى التعقب بِأَن: صَلَاة اللَّيْل لَيست بواجبة. . إِلَى آخِره، قَول واهٍ لِأَن الدَّلَائِل قَامَت على وجوب الْوتر. مِنْهَا: مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد: حَدثنَا مُحَمَّد بن الْمثنى حَدثنَا أَبُو إِسْحَاق الطَّالقَانِي حَدثنَا الْفضل بن مُوسَى عَن عبيد الله بن عبد الله الْعَتكِي (عَن عبد الله بن بُرَيْدَة عَن أَبِيه، قَالَ: سَمِعت رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يَقُول: الْوتر حق فَمن لم يُوتر فَلَيْسَ منا، الْوتر حق فَمن لم يُوتر فَلَيْسَ منا، الْوتر حق فَمن لم يُوتر فَلَيْسَ منا) . وَهَذَا حَدِيث صَحِيح، وَلِهَذَا أخرجه الْحَاكِم فِي (مُسْتَدْركه) وَصَححهُ. فَإِن قلت: فِي إِسْنَاده أَبُو الْمُنِيب عبيد الله بن عبد الله، وَقد تكلم فِيهِ البُخَارِيّ وَغَيره. قلت: قَالَ الْحَاكِم: وَثَّقَهُ ابْن معِين، وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم: سَمِعت أبي يَقُول: هُوَ صَالح الحَدِيث، وَأنكر على البُخَارِيّ إِدْخَاله فِي الضُّعَفَاء، فَهَذَا ابْن معِين إِمَام هَذَا الشَّأْن وَكفى بِهِ حجَّة فِي توثيقه إِيَّاه. فَإِن قلت: قَالَ الْخطابِيّ: قد دلّت الْأَخْبَار الصَّحِيحَة على أَنه لم يرد بِالْحَقِّ الْوُجُوب الَّذِي لَا يسع غَيره. مِنْهَا: خبر عبَادَة بن الصَّامِت لما بلغه أَن أَبَا مُحَمَّد، رجلا من الْأَنْصَار، يَقُول: (الْوتر حق، فَقَالَ: كذب أَبُو مُحَمَّد، ثمَّ روى عَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي عدد الصَّلَوَات الْخمس. وَمِنْهَا: خبر طَلْحَة بن عبيد الله فِي سُؤال الْأَعرَابِي. وَمِنْهَا: خبر أنس بن مَالك فِي فرض الصَّلَوَات لَيْلَة الْإِسْرَاء قلت: سُبْحَانَ الله مَا أقرب هَذَا الْكَلَام، إِلَى السُّقُوط، فَمِنْهُ يشم أثر التعصب، وَكَيف لَا يكون وَاجِبا والشارع يَقُول الْوتر حق، أَي: وَاجِب ثَابت، وَالدَّلِيل على هَذَا الْمَعْنى. قَوْله: (فَمن لم يُوتر فَلَيْسَ منا؟) وَهَذَا وَعِيد شَدِيد، وَلَا يُقَال مثل هَذَا إلاّ فِي حق تَارِك فرض أَو وَاجِب، وَلَا سِيمَا وَقد تَأَكد ذَلِك بالتكرار ثَلَاث مَرَّات، وَمثل هَذَا الْكَلَام بِهَذِهِ التأكيدات لم يَأْتِ فِي حق السنين، فَسقط بذلك مَا قَالَه الْخطابِيّ